مواضيع مماثلة
لائحة المساحات الإعلانية
لإضافة إعلاناتكم الرجاء
مراسلتنا على البريد الإلكتروني التالي
بحـث
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 165 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 165 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحثلا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 242 بتاريخ الأحد ديسمبر 01, 2013 9:22 am
احصائيات
هذا المنتدى يتوفر على 57 عُضو.آخر عُضو مُسجل هو yaasaay فمرحباً به.
أعضاؤنا قدموا 563 مساهمة في هذا المنتدى في 551 موضوع
تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
المدير العام | ||||
عاشقة الزهراء | ||||
سمير محمود الطائي | ||||
قدوتي زينب ع | ||||
الغضب الصدري | ||||
Aorn | ||||
يا صاحب الزمان | ||||
حسين | ||||
احمد علي حسين العلي | ||||
السيد عبد الحسين الاعرجي |
دروس في علم المنطق ـ المحاضرة الرابعة
صفحة 1 من اصل 1
دروس في علم المنطق ـ المحاضرة الرابعة
بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين
كان الكلام في مراتب الإدراك عند الإنسان ، و قلنا بأن هذه المراتب هي :
أولاً / الحسّ .
و ثانياً / الخيال لا المتخيّلة .
و ثالثاً / الوهم على بعض الأقوال .
و رابعاً / العقل و القوةُ العاقلة ، و التي تميز الإنسان عن غيره من باقي الحيوانات ، و لولا وجودُ هذه القوة ، و هي القوةُ العاقلة عند الإنسان ، و المفكرة ، و التي يقع فيها الإستدلال و التفكير ، و السير من المعلوم لكشف المجهول لم نحتج إلى علم المنطق ، لأن الخطأ و الاشتباه إنما يقعُ في هذه المرحلة ؛ و من هنا احتجنا إلى علمٍ يستطيع أن يقوّم عملية الاستدلال عند الإنسان ، و السبب : باعتبار أن القوى الأُخرى هنا قد تتدخّل فتخطّأ عملية الاستدلال .
مثال توضيحي :
أنا الآن أضرب مثالاً حتى يتّضح أنّ القوى الأُخرى كيف تستطيع أن تحرِفَ القوة العاقلة عن مسيرتها المرسومة لها :
الإنسان ينام إلى جنب ميّتٍ في الليل ، فهنا العقل ماذا يقولُ له ؟ و الوهم ماذا يقولُ له ؟ فأمّا بالنسبة للعقل فلو سألته يقول : جامدٌ كأيّ خشبةٍ جامدة لا فيها أثرٌ و لا منها خوفٌ و لا وحشةٌ و لا غير ذلك ، و لكن عندما تأتي إلى الوهم ماذا يقول ؟ ترى أن الوهم يصوّرُ لك ألف صورةٍ فيجعلُك تستوحش من البقاء آنٍ واحدٍ إلى جنبه ، أنت تدخل إلى مكان مضيئ فلا تأخذك الوحشة ، و لكن نفس ذلك المكان أو اظلمّ لأخذتك الوحشة في نفس ذلك المكان ، فلو سألت العقل لقال العقل بأن لم يحدث شيء و إنما الأمر أنه كان هناك نور و الآن لا يوجد هناك نور ، لم يتغير شيء ، إذن ، بحسب منطق الاستدلال لا فرق بين حالة النور و حالة الظلمة ، و لكن الوهم لا يستطيع أن يفهم هذا فيتوحّش في مثل هذه الحالة أو تأخذه الوحشة و الاضطراب ، و هذا معناه أنّ القوة الواهمة تتدخل في القوى العقلية أو في قوة العاقلة و الاستدلال العقليّ ، و حتى نقف أمام هذه التدخلات من القوى الأُخرى، طبعاً في القوى الحسيّة أيضاً كذلك لأن الحس يخطأ فمن يقوّم خطأ الاحساسات و الأُمور و الاحساسات الموجودة عند الإنسان فأيضاً يحتاج إلى ميزان و ضابطة و طريقٍ يستطيعُ على أساسه أن يميز الصحيح من السقيم فيما يرتبط بالهيئة و فيما يرتبط بالمادّة ؛ فلهذا قال ( و علم المنطق وُضِعَ من بين العلوم لأجل تنظيم تصرفات هذه القوة ) مادةً و هيئةً ، و نحن مراراً ذكرنا أن علم المنطق لا يختصّ بتنظيم الهيئة دون الصورة و إنما يشملهما معاً ( خوفاً من تأثير الوهم و الخيال عليها ) أي على القوى العاقلة ( و من ذهابها ) أي القوة العاقلة ( في غير الصراط المستقيم لها ) و الطريق الصحيح الذي رُسِمَ لها .
النصّ :
} تعريف العلم :
و قد تسأل : على أي نحو تحصل للإنسان هذه الإدراكات ؟ و نحن قد قرّبنا لك فيما مضى نحو حصول هذه الإدراكات بعض الشيء ، و لزيادة التوضيح نكلّفك أن تنظر إلى شيء أمامك ، ثمّ تطبق عينيك موجّهاً نفسك نحوه ، فستجد في نفسك كأنّك لا تزال مفتوح العينين تنظر إليه ، و كذلك إذا سمعت دقات الساعة ـ مثلاً ـ ثمّ سددت أُذنيك موجهاً نفسك نحوها ، فستحسّ من نفسك كأنك لا تزال تسمعها ... و هكذا في كلّ حواسك . إذا جرّبت مثل هذه الأُمور ، و دققتها جيداً ، يسهل عليك أن تعرف أنّ الإدراكات أو العلم إنّما هو انطباع صور الأشياء في نفسك ، لا فرق بين مدركاتك في جميع مراتبها ، كما تنطبع صور الأشياء في المرآة . و لذلك عرّفوا العلم بأنّه :
" حضور صورة الشيء عند العقل " .
أو فقل انطباعها في العقل ، لا فرق بين التعبيرين في المقصود { .
ــــــــــــــــــــــ0
الشرح :
تعريف العلم :
ـــــ
( تعريفُ العلم ) : إلى هنا اتضح لنا بأنّ الإنسان ما هي المراحل التي يمرّ بها لكي يصل إلى القوة العاقلة ، إذن لا يبدأ مع العلم ، و إنما يولد عاقلاً بالوهم و بعد ذلك بالعلم يكونُ عاقلاً بالفعل ، و إلاّ مذ يولد فإنه عاقلٌ بالقوة لا أنّه عاقلٌ بالفعل ، بل لعلّه أيضاً حاسٌّ بالقوة متخيّلٌ له قوة الخيال في القوة ، و له أيضاً و هم بالقوة ، و هذه الأمور و قوانينها موكولة إلى محلها من الفلسفة ، فالحركة الجوهرية في علم النفس الإنسان يترقى في مدارج الكمال إلى أن يصل إلى القوة العاقلة فيكونُ عاقلاً بالفعل ، أي يكون إنساناً بالفعل
و أمّا تعريف العلم ، فنحن هنا عندما نقول : ما هو تعريفُ العلم ؟ فإننا لا نريد أن نبحث أنّ العلم ما هو جنسُه و فصلُه ، إنشاء الله سيأتي بعد ذلك أننا ندخلُ في بحث التعريف ، و التعريف إمّا حدٌّ و إما رسم و الرسم إمّا تام و إما ناقص و الحدّ كذلك ، فماهو التعريفُ الحدّي التام ؟ هو الذي يشتملُ على على الجنس و على الفصل ، ما هو الجنس ؟ هو الأمر الأعمّ ، ما هو الفصل ؟ هو الأمر الأخصّ ، ما مرّ هو التعريفُ المنطقي ، و أمّا هنا ـ في تعريف العلم محلّ الكلام ـ عندما نسأل ما هو العلم هل ـ أيضاً ـ نبحثُ عن جنسٍ و فصلٍ , ووو نحو ذلك أو ليس الأمرُ كذلك ؟ هنا يوجدُ اختلافٌ بين المناطقة فبعضٌ يرى أنّ العلم قابلٌ للتعريف و بعضٌ لا يرى أنه قابلٌ للتعريف .
هذا التعريف الذي يذكره ـ المصنف ـ هنا ، مبني على تلك النظرية التي ترى أنّ العلم قابلٌ للتعريف ، يعني تعتبر ـ تلك النظرية ـ العلم كيفاً نفسانيّاً ، و إنشاء سيأتي بحثٌ بعد ذلك بأنه ما هو المراد من الجوهر ، ما هو المراد من العرض ثم العرض على أقسام : كيفٌ ، كمٌّ و نحو ذلك ، ثم الكيف على أقسام : كيفٌ نفساني ، كيفٌ محسوس ، كيفٌ استعدادي ، كيفٌ مختصٌّ بالكميات ، قد يجعلون العلم داخل تحت الكيف النفساني ، و هذا تفصيلُه موكول إلى دراسات أُخرى . المهم أنه ـ العلم ـ مبني على تلك النظريّة التي ترى أنّ العلم قابلٌ للتعريف و إلاّهناك نظرية أُخرى تقول : أنّ العلم ليس قابلاً للتعريف ، لماذا ؟ لأنّ كلّ شيءٍ إنما يتصفُ بالعلم ، فالعلمُ هو منكشفٌ بذاته و كاشفٌ لغيره ، من قبيل " النور " فإن هذا " النور " هل يوجد هناك شيءٌ يكشفُه أو هو كاشفٌ لكلّ شيء ؟ هو كاشفٌ لكلّ شيء و ليس نحن نكشفُه ، هو مكشوفٌ بنفسه لا يحتاج أن يكشفَه ، فأنت ـ مثلاً ـ لا تستطيع أن ترى هذا الكتاب إلاّ في النور ، إذن هذا الكتاب منكشفٌ بنفسه أو منكشفٌ بالنور ؟ منكشفٌ بالنور و إلاّ في الظلمة أنت لا تستطيع أن تراه هو ـ الكتاب ـ ، إذن ، انكشافُه لك كان بغير لا بنفسه ، و أمّا النور فمنكشفٌ بنفسه لا بغيره ، فهو المنكشفُ بنفسه و الذي ينكشفُ به غيرُه ، و العلم أيضاً ، كلُّ شيءٍ ينكشفُ بالعلم ، فالعلمُ يكونُ منكشفاً بنفسه ، فهذه النظرية تقول : أنّ العلم لا تعريف له .
فبناءً على النظرية الأولى ـ أن العلم قابلٌ للتعريف ـ عُرِّف العلم بأنه : " حضور صورةُ الشيء عند العقل " ، فقوله " حضور صورةُ الشيء " باعتبار أننا قلنا بأنه في العلم الحصولي لا يحضرُ نفسُ وجودِ الشيء و إنما تحضُرُ صورة من ذلك الشيء ، و لكنّ السؤال الذي يُطرحُ هنا هو : أننا عندما نقول " صورة " ماذا يُرادُ من الصورة ؟
الآن أنا عندما أقول " صورة " فإنه يتبادر إلى أذهان أكثر الأُخوة أن الصورة يعني الشكل الهندسي و الشكل الذي هو الطول و العرض و العمق ! لا ، ليس مرادنا من الصورة في المنطق يعني الشكل الهندسي الطول و العرض و العمق ، لا ، لأنه كثير من الأُمور التي ندركها لا صورة لها ، فمثلاً نحن نُدرك الممتنعات و الممتنعات لا صورة لها لأنه ليس لها وجود أصلاً حتى تكون لها صورة ، فـ " شريك الباري " ممتنعٌ أو ممكنٌ ؟ ممتنعٌ ـ كما قرأتم ـ لأن شريك الباري ليس له صورة ، الكتاب له صورة ـاخذها منه في ذهنك و أمّا " شريك الباري " فليس له صورة حتى تأخذ تلك الصورة في ذهنك ، الشجرة لها صورة ـ وجود خارجي ـ تأخذها منها في ذهنك كالصورة الفوتوغرافية ـ مثلاً ـ و لكن " شريك الباري " ليس له وجود خارجي حتى نأخذ منه صورة في ذهننا .
إذن ، عندما نقول " صورة " ليس مرادنا الشكل الهندسي ، و إنما مرادنا من الصورة : كلُّ معنىً يُتعقّل ، كلُّ معنىً يُدرَك ، هذا هو مرادُنا من " الصورة " في المنطق ، فإذن ، ليس مرادنا من " حضور صورة الشيء " يعني الشكل الهندسي للشيء ، الآن ـ جنابك ـ تُدركُ ـ بالعلم الحصوليّ ـ أنّك خائف أو لا تُدرِكُ أنّك خائف ؟ يعني تقول : أنا خائفٌ أو كنتُ خائفاً ، فهذا " كنتُ خائفاً " ليس علم حضوري بل هو علمٌ حصولي ، لماذا ؟ لأنه الآن نفس الخوف غير موجود و إنما الموجود هو صورة من الخوف ، و هذه الصورة من الخوف طولها متر ، نصف متر ، ربع متر ؟ نقول : من الواضح أنّ الخوف ليس له صورة و لا شكل حتى أنك تقول : هذه الصورة مثلثة أو مربعة أو ... ! نعم " هذا الكتاب " ، " هذه الشجرة " ، " هذا الميكروفون " له صورة ، و لكنه تلك المعاني المدرَكَة من قبيل " الخوف " و " الفرح " و ... هذه كلها مدرَكَة و لكن ليس لها صوراً ـ أي وجود خارجي ـ بالمعنى الهندسي .
إذن ، عندما نقول ـ هنا ـ " حضور صورةُ الشيء " فلا يتبادر إلى الذهن أن المراد منها " الصورةُ العُرفية " يعني ما له شكلٌ هندسي كهذه الصورة التي نتعارفُ عليها و هي صورة الإنسان ، لا ليس ذلك ، نعم بعض الأُمور الحاضرة عند الإنسان تكونُ من هذا القبيل ، و هو أنّها لها شكلٌ هندسي ، و لكن بعض الصور الحاضرة في ذهن الإنسان و التي يُدركها إمّا بحسّه و إمّا بخياله و إمّا بعقله فإنّه لا صورةَ هندسيّة لها و إن كان لها نوعُ إدراكٍ عند الذهن البشري ، يعني " حضورة صورة الشيء " يشمل ذاك الذي له شكلٌ هندسي و ليس الذي له شكلٌ هندسي ، كما مثّلتُ لكم في " الخوف " فأنت تقول : كنتُ بالأمس خائفاً ، فهذا الخوف الآن حاضرٌ عندك بالعلم الحصولي ، و لكن ما هي صورة الخوف ؟ لا صورة له ، ما السبب لهذا الخوف ؟ لنفترض أنّ سببه " الحيوان المفترس الكذائي " فأنت عندما تقول " خائف " تتصور الأسد ؟! أو أنك تتصور معنى الخوف بشكل آخر ؟ فالسبب من الخوف هو الإدراك الخاص و أنت لا علاقة لك به ، و أنت ـ أيضاً ـ عندما تقول " أنا فرِحٌ " فلا يذهب ذنهك إلى الصورة الخارجية و التي سبّبت لك هذا الفرح ، و إنما معنى " الفرِح " واضحٌ أمامك فتتصوره و يرتسم في ذهنك بشكل آخر لا أنه ترتسم و تتصور صورة الشيء الذي أفرحك أو كنت خائفاً منه .
( و قد تسأل : على أيّ نحوٍ تحصل للإنسان هذه الإدراكات ؟ ) : أي الإدراكات الحسيّة ، و الخياليّة ، و الوهميّة ، و العقليّة ؛ هذه الإدراكات من أين تحصل ؟
( و نحن ) : في مقام الجواب .
( قربنا لك فيما مضى نحو حصول هذه الإدراكات بعض الشيء ) : و نسأل هنا : لماذا ـ شيخنا ـ قلت " بعض الشيء "باعتبار أنّه الذي ذكرته لنا هو حصول الإدراكات التي لها وجودٌ خارجي ، أمّا تلك الإدراكات التي ليس لها وجودٌ خارجي أن الإنسان من خلال حواسه يرتبط بالأُمور الخارجية ، إذن من خلال الحواسّ يستطيع أن يأخذ الصورة عن الأشياء الموجودة أمّا الأشياء الغير الموجودة فمن أين يأخذ صورها ، إذ لا وجود لها ؟
أنت تقول " اجتماع النقيضين محالٌ " فهل أنت لديك " اجتماع نقيضين " في الخارج حتّى تقول اجتماعهما محالٌ ؟ لا ، لأنك تقول اجتماعهما محالٌ ، إذن أنت عندك صورة في ذهنك من ذلك أم لا ؟ طبيعي ، أنت عندما تريد أن تحكم بحكمٍ لا بد أن تتصوّر الموضوع ، فهذا الموضوع " اجتماعُ النقيضين " ليس له جود خارجي ، و إنما وجوده و صورته في الذهن ، أي من المكان الذي أخذته منه و هو الذهن .
إذن ، بيّنا لك حصولَ هذه الإدراكات بعض الشيء ، أي بينا لك تلك الإدراكات التي يكون لها وجودٌ خارجي و أمّا التي ليس لها وجود خارجي فله حديثٌ آخر .
( و لزيادة التوضيح نكلّفُك أن تنظُرَ إلى شيءٍ أمامك ) : كهذا الكتاب الذي أمامي ـ مثلاً ـ .
( ثمّ تُطبّقُ عينيك موجهاً نفسك نحوه ) : أي نحو ذلك الشيء المنظور .
( فستجدُ في نفسك كأنك لا تزالُ مفتوحَ العينين تنظُرُ إليه ) : و هذا هو العلمُ الخيالي ، و نحن بينا فيما مضى الفرق بين الإحساس و الخيال ، فإذا أغمضت عينك و تصورت نفس الكتاب ، هذا نسميه ـ أي انقطاع الصورة عن الخارج ـ خيال .
( و كذلك إذا سمعت دقات الساعة ـ مثلاً ـ ثمّ سددت أُذُنيك موجهاً نفسك نحوها ) : أي نحو دقات الساعة .
( فستحسُّ من نفسك كأنّك لا تزالُ تسمعها ... و هكذا في كلّ حواسّك ) : الظاهرة التي أشرنا إليها .
( إذا جرّبت مثل هذه الأُمور و دققتها جيّداً ، يسهل عليك أن تعرف أنّ الإدراكات أو العلم ) : أي إدراك و أي علم ؟ نقول : يجب هنا تقييد الإدراك أو العلم فنقول : الإدراك أو العلم الحصوليّ ، لأنه نحن لا نتكلم هنا في مطلق العلم الأعم من الحضوري و الحصولي ، فإذن مراده من قوله ( الإدراك أو العلم ) إنّما هو خصوص العلم الحصولي كما هو مبيّن و أشرنا إليه .
( إنّما هو انطباعُ صور الأشياء في نفسك ، لا فرق بين مدركاتك في جميع مراتبها ، كما تنطبعُ صور الأشياء في المرآة ) : سواءٌ كان حسّاً ، عقلاً أم خيالاً إلى غير ذلك .
المسامحة في تعبير " الإنطباع " :
ــــــــــــ
هذا التعبير بـ ( الإنطباع ) فيه نوع من المسامحة ، و لكن هذه المسامحة أنا الآن لا أستطيع أن أُوضّحها على الأُخوة ، أُنظر ، هذا تعبير " الإنطباع " يوحي لك بهذا الشكل و هو : أنّ النفس كهذه السبورة ، فأنت عندما تنظر إلى هذا الكتاب فصورة هذا الكتاب أين تنطبع ؟ هذا معنى الإنطباع ، فأنت عندما تقول : انطبع هذا الشيء في نفسي ، يوحي لك ذلك الإنطباع أن هناك شيئاً ، أو صفحة فارغة لا يوجد فيها أيُّ شيء ، و عندما أعلمُ شيئاً تنطبعُ عليها صورة ذلك الشيء ، يعني تنتقش فيها الصور ، و لكن هذا التصور عن العلم صحيح أو خاطيء ؟ نقول : هذا التصور عن العلم خاطيء قطعاً و غير صحيح ، و السبب : لأنه ـ جنابك ـ في بعض الأحيان صفحة النفس كم مساحتها ؟ كبيرة ، ألآن لا نقول أنها بقدر المخ و الدماغ و لكن لنقل أنها بقدر طولك ، و لكن أنت في بعض الأحيان تنظر إلى مناظر مساحتها عشرين كيلو متر في عشرين كيلو متر ، فهذه أين تنطبع ؟ تنطبع في النفس ، و لكن تنطبع في النفس صغيرة أو كبيرة ؟ فإن قلت تنطبع صغيرة فإذن من أين تأتي هذه الكبيرة من الخارج ؟ فإذا انطبعت على صفحة نفسك تنطبع صغيرة أم كبيرة لأن الصورة في الواقع الخارجي كبيرة ، و إن أدركت الواقع على كبره فهذا معناه أن انطباع الكبير صار في الصغير و هو محال لأنّ المساحة هي عشرة سنتيمترات أو مترين أو ثلاثة أمتار فهل ممكن أن ينطبع فيها شيءٌ بمساحة عشرين كيلو متر ، فإذن العلم ليس بهذا الشكل الذي يتبادر إلى ذهن الإنسان ، يعني أنا قبل أنظر إلى هذا الكتاب نفسي فارغة ، لوحة بيضاء و لكن بعد أن نظرتُ إليها أو لمستُها بإحدى الحواسّ الخمس فينطبعُ شيءٌ في نفسي خصوصاً هذا الذي يؤكدُ هذه المسامحة ، هذا المثال الذي يضربه المصنّف ، يقول كما تنطبع صورُ الأشياء في المرآة ، فأنت عندما تقف أمام المرآة أين تنطبع صورتُك ؟ في المرآة ، و السؤال : أنت عندما تقف أمام المرآة صورتُك تراها في المرآة ، فهل هذا يعني أن هناك شيء في المرآة أم لا ؟ صورة توجد في المرآة أم لا ؟ توجد صورة ، و لكن هذه الصورة مطبوعة في المرآة أم في النفس ؟ مما لا شك أن الصورة مطبوعة في المرآة ، و المرآة فيها سمك ، و لكن أنت سُمكُك تراه في المرآة أم لا ؟ لا ، لأن الصورة التي في المرآة ليس فيها سمك ، و إذا كان ليس فيها سمك فما هذا الذي تراه في المرآة ؟ فإذا قلت لا يوجد في المرآة شيء فإذن ما هذا الذي تنظر إليه أليس هو صورتُك ! و إن كان في المرآة شيء فأين مكانه ؟
إذن ، هذه الأمثلة التي تُضرب إنما نضربها فقط لتقريب المطلب إلى ذهن المستمع و ذهن الطالب ، و و اقع الحال أيضاً هو ليس هكذا ، واقع الحال هو مطلب أكثر دقّة و أعمق من هذا ، و أنا إنما ذكرت هذا لماذا إذ كان بإمكاني أن أقول " إنطباع " و أتجاوز ، السبب : لأن الطالب إذا من الآن نحن قلنا له هذا المطلب و تصور أنّ العلم هو هذا فإنه سيظل عشر سنوات يتصور أن العلم هو هذا الإنطباع ، و أنت بعد عشر سنوات إذا أردت أن تُخرج هذا من ذهنه فهذا مشكل حيث لا تستطيع ، فإذن من الآن فليعلم المستمع و الطالب أنه الآن نحن عندما نقول " انطباع " فإنه ليس مرادنا المعنى الحقيقي له ـ أي للإنطباع ـ و إنما ـ فقط ـ لتقريب المطلب إلى ذهن الطالب ، هذا أولاً .
و ثانياً : أنت إذا غابت هذه الصورة فتأتي من أين ؟ من الخارج ، فإذا كانت تأتي من الخارج فهل يُعقل أن يُخطأ أحدٌ الخارج أم لا ؟ أنت إذا صورتك أخذتها من الخارج و حواسّك كانت تامّة فهل يُمكن أن تخطأ أو لا ؟ لا يُمكن أن تخطأ و لكن مع ذلك أنت كثيراً ما تخطأ في علومك ، فإ1اً ، تبيّن أنّ هذه الصورة أنت لم تأخذها من الخارج و إنما أخذتها من مكانٍ آخر ، أنت تقول أنا الآن أنظر إلى هذا الكتاب ، فهذه الصورة التي جاءت في ذهنك عن الكتاب جاءت من أين ؟ من أين أخذتها ؟ إذا كنت أخذتها من هذا الكتاب فلا بدّ أن لا تُخطِأ ، و لكن مع ذلك أنت في بعض الأحيان تُخطِأ ، فإذن تبين أنّ الصورة لم تأخذها من هنا ، أي من الكتاب ، إذ لا يُمكن أن تكون أخذتها من الكتاب لأنك إن كنت قد أخذتها من الكتاب فلا بدّ أن لا تُخطِأ .
إذن ، فليكن في ذهن الأُخوة أن انطباع صور الأشياء في الذهن مستحيل لأنّ الذهن لا واقعيّة له بهذا المعنى الذي يتبادر إلى الذهن بل له معنىً أدق و أعمق و هذا انشاء الله موكولٌ إلى دراسات فلسفيّة و منطقية أعمق من دراستنا هذه .
( و لذلك عرّفوا العلم ) : أي العلم الحصوليّ .
( حصورُ صورةُ الشيء عند العقل ) : طبعاً ، هنا عندما نقول " عقل " ليس مرادنا القوة العاقلة ، بل تشمُلُ الخيالية و الحسّ و الوهم ، فهذه كلُّها حاضرة عندها الصورة .
السؤال الأخير الذي يرتبطُ بهذا البحث ، هو : أنني عندما أقول " أنا عالمٌ بالشيء " فأنت عالمٌ بالشيء الخارجي أو عالمٌ بالصورة الذهنية ؟ عالمٌ بالصورة الذهنية ، فإذا كنت عالمٌ بالصورة الذهنية لا بالشيء الخارجي فإذن لماذا تقول " أنا عالمٌ بوجود الكتاب في الخارج " ؟ نقول : أننا نقول ذلك من حيث أن هذه الصورة منطبقة تماما الإنطباق مع الوجود الخارجي ، فعندما تعمل الصورة أنت تقول " أنا عالمٌ بالوجود الخارجي " و إلاّ أنت ليس بعالم بالوجود الخارجي و إنما عالمٌ بصورة الوجود الخارجي لا بالوجود الخارجي ، و إلاّ لو كنت عالماً بالوجود الخارجي لكان علمُك حضورياً لا حصولياً ، لأنه إذا علمت بالوجود الخارجي و حضر عندك الوجود الخارجي صار علماً حضورياً , و إذا صار علماً حضورياً ، يعني إذا علمت بالنار فلا بد أن يحترق ذهنك أيضاً عند تصور النار في الذهن لأن النار موجودة ! مع أنه أنت تعلمُ بالنار و لا يحترقُ ذهنك ، و هذا معناه أنك تعلمُ بصورة النار لا أنك تعلمُ بالنار ، و من هنا يصطلِحُ العلماء يقولون : أنّ الإنسان يعلمُ صورة الشيء و هذه الصورة يعبّرون عنها بـ " معلوم ذاتي " هي المعلومة أولاً و بالذات ، و هذا الوجود الخارجي يعبّرون عنه بمعلوم أيضاً و لكن معلوم ثانياً و بالعرض لا معلوم أولاً و بالذات .
إذن ، أنت عندما تقول " أنا عالمُ بوجود زيد " حقيقة الكلام يرجِعُ إلى أنّك عالمٌ بصورة وجود زيد ، و لكن حيثُ أنّ العالم دائماً يرى أنّ علمَه مطابقٌ للواقع الخارجيّ فيقول " أنا عالمٌ بالوجد الخارجي " و إلاّ في واقع الحال هو ليس عالماً بالوجود الخارجي و إنما هو عالمٌ بالصورة الذهنية ، أي عالمٌ بالوجود الذهني لذلك الوجود الخارجي .
( أو فقل انطباعها في العقل لا فرق بين التعبيرين في المقصود ) : يعني انطباعُ صور الأشياء في العقل .
النصّ :
} التصوّر و التصديق { .
ــــــ0
الشرح :
بعد أن اتضح لنا ما هو العلم و كيف يحصَلُ العلم للإنسان ، ننتقلُ إلى أقسام العلم ، أي العلم الحصولي ، ما هي أقسام العلم الحصوليّ ؟ قالوا أنّ العلم الحصوليّ ينقسمُ إلى تصورٍ و إلى تصديق ، ما هو المراد من التصور ، و ما هو المراد من التصديق ؟
معنى التصور :
ـــــ
التصوّر : و اضحٌ عند الجميع ، و المراد منه : تلك المفاهيم التي تتعرّفُ عليها و لا تجزِمُ بوجودها أو عدم وجودها ، لا يوجدُ فيها حكمٌ من النّفس ، و لا إذعانٌ و تصديقٌ من النفس ، أي فقط تصورات لا شيء غيرها .
أنت جنابك ، عندما أقول لك ما هو المثلث ؟ أنت تقول : المثلث كذا و كذا ، أنت عندك في ذهنك صورة عن المثلث أو لا ؟ نعم عندك صورة عن المثلث ، أمّا أنّ هذه الصورة موجودة في الخارج أو غير موجودة في الخارج ، أحكامها ما هي ، قوانين المثلث ما هي ، زواياه تساوي قائمتين أو لا تساوي قائمتين ، و و و ... ؟ هذه كلّها لا علاقة لك بها .
أقولُ لك " الإنسان " فأنت يتبادر إلى ذهنك معنىً معيّن من هذا اللفظ أو لا ؟ نعم يتبادر إلى الذهن معنىً معيّن ، و لكن هل الإنسان موجود في الخارج أو غيرموجود ؟ هل هو جالس أو قائم ؟ عالم أو جاهل ؛ هذه كلّها أنت في غفلةٍ عنها و لا علاقة لك بها ، فهذه المفاهيم ـ أي تلك المعاني ـ التي تأتي إلى الذهن و تضعُ لها ألفاظ من قبيل ( إنسان / بقر / سماء / أرض ... ) و نحو ذلك ، من غير أن يوجدَ معها إذعانٌ ، قبولٌ ، إقرارٌ ، جزمٌ ، حكمٌ من النفس ، هذه نسميها تصوّرات ، نعم إدراك و لكن إدراك ليس معه حكم ، ليس معه إذعان من النفس و أمثلتُه واضحة كما ستقرأون ، إنّما الكلام كلُّ الكلام في القسم الثاني و هو التصديق ، فما هو المراد من التصديق ؟
معنى التصديق :
ـــــ
التصديق ليس فقط مجموعة تصورات ، أنت الآن تقول : " زيدٌ قائمٌ " يأتي إلى ذهنك بالإضافة إلى معنى " زيد " و معنى " قيام " أنّ هناك علاقة بين الموضوع " زيد " و بين المحمول " قائم " ، فما هي هذه العلاقة ؟ نقول : لأن القيام واقعٌ و ثابتٌ لـ " زيد " و النفسُ أذعنت و قبلت بهذا ، قبلت و أذعنت لأيّ معنى ؟ يعني عندما تقول لها " زيدٌ قائمٌ " فإنّ النفس إذا كانت تعلم بوقوع " النسبة " ـ نسبة القيام ـ و " زيد " فإنها ـ النفس ـ تطمئنُّ و تسكنُ إلى هذا ، إذن ، نحن في " التصديق " عندنا مجموعة تصورات بالإضافة إلى وجود شيء وراء التصورات ، إذن ، واضحٌ أنه ليس عندنا فقط موضوع و محمول و نحو ذلك بل عندنا شيءٌ وراء ذلك و هو الذي نُعبّرُ عنه بـ " تصديق النفس " و " إذعان النفس " و " حكم النفس " هذا هو التصديق ، و لكن وقع كلامٌ بين العلماء في أنّ " التصور " و " التصورات " هي أُمور بسيطة غير مركبة من أشياء ، و " التصديق " أيضاً أمرٌ بسيط أو مركّب ؟ يوجد قولان في المسألة :
القول الأول / قولٌ يقول : بأنّ التصديق مركّبٌ من أربعة أجزاء ، الأجزاء الأربعة في قولنا " زيدٌ قائمٌ " هي : زيد ، قيام ، النسبةُ الحُكميّة القائمة بين " زيدٍ و القيام " ، ثمّ حُكمُ النفس و إذعانُ النفس أنّ هذه النسبة متحقّقة في الخارج ، إذن فالتصديق أصبح له أربعة أجزاء ، هي :
1- تصور الوجود ـ الموضوع ـ .
2- تصور المحمول ـ القيام ـ .
3- النسبةُ الحكمية ، تصورٌ ثالث ، و معناها أن هذا المحمول هل يُمكن أن يثبُت لهذا الموضوع أو لا يُمكن أن يثبُت ؟ ففي بعض الأحيان أنّ المحمولات غير قابلة أن تثبُت للموضوع كما لو قلت " الحجرُ قائمٌ " فالقيام هنا هو معنىً إرادي و لا يثبُتُ للحجر ، أو تقول " الحجرُ عالمٌ " فالعلم يثبُت للحجر أو لا ؟ لا يثبُت العلمُ للحجر ، إذن في النسبة الحكمية نحن نرى أنّ هذا المحمول يُمكن أن يثبُت للموضوع أو لا يُمكن أن يثبُتَ للموضوع ؟ و هذا أيضاً تصور من التصورات لا أكثر من هذا .
4- نعم ، إذا أذعنت النفس و صدّقت بأنّ هذه النسبة متحقّقةٌ في الواقع الخارجي لذلك يكونُ تصديقاً .
القول الثاني / قولٌ يقول : أنّ التصديق هو نفس ذلك الإذعان الذي هو الإدراك ، و هذه الأُمور الثلاثة ليست داخلة في حقيقة التصديق ، أمّا ما هو برهانُه ؟ أيضاً هناك براهين متعدّدة لبُطلان ذلك القول الأول الذي ذهب إليه الفخرُ الرازي .
القول الثاني هو الصحيح : و هو القول الذي ذهب إليه مجموعِ حكماء المتأخرين ، من أنّ التصديق أمرٌ بسيط و ليس مركباً من تصورات و نسبة حكمية و إذعان النفس بوقوعِ النسبة و عدم وقوعِ النسبة .
إذن العلمُ إمّا إدراكٌ إلى أن يستتبعَ حكماً ، و إمّا إدراكٌ يستتبع حكم ، و بعبارةٍ أُخرى :
أنّ العلم إمّا تصوّرٌ مجرّدٌ عن الحكم و إمّا تصورٌ يستتبعُ الحكم .
فالأول : نسميه " التصور " ، و الثاني : نسميه " التصديق " .
إذن ، العلمُ ينقسمُ إلى تصورٍ و إلى تصديق . قال :
النصّ :
} إذا رسمت مثلثاً تحدث في ذهنك صورةً له ، هي علمُك بهذا المثلت ، و يُسمى هذا العلم ( بالتصوّر ) . و هو تصوّر مجرّد لا يستتبعُ جزماً و اعتقاداً . و إذا تنبّهت إلى زوايا المثلت تحدثُ لها أيضاً صورة في ذهنك . و هي أيضاً من ( التصوّر المجرّد ) . و إذا رسمت خطاً أُفقياً و فوقه خطاً عمودياً مقاطعاً له تحدث زاويتان قائمتان ، فتنتقش صورة الخطين و الزاويتين في ذهنك . و هي من ( التصوّر المجرّد ) أيضا .
و إذا أردت أن تقارن بين القائمتين و مجموع زوايا المثلث ، فتسأل في نفسك هل هما متساويان ؟ و تشكّ في تساويهما ، تحدُث عندك صورة لنسبة التساوي بينهما . و هي من ( التصور المجرّد ) أيضاً .
فإذا برهنت على تساويهما تحصل لك حالة جديدة مغايرة للحالات السابقة ، و هي إدراكُك لمطابقة النسبة للواقع المستلزم لحكم النفس و إذعانها و تصديقها بالمطابقة . و هذه الحالة أي ( صورة المطابقة للواقع التي تعقلتها و أدركتها ) هي التي تُسمّى ( بالتصديق ) ، لأنّها إدراكٌ يستلزم تصديق النفس و إذعانها ، تسميةً للشيء باسم لازمه الذي لا ينفكّ عنه { .
ــــــــــــــــــ0
الشرح :
( إذا رسمت مثلثاً تحدث في ذهنك صورةً له ) : أي لذلك المثلث ، باعتبار انطباع صورُ الأشياء في الذهن و العقل فتحدُثُ صورة .
( هي علمُك بهذا المثلث ، و يُسمّى هذا العلم " بالتصوّر " . و هو تصوّر مجرّد لا يستتبعُ جزماً و اعتقاداً ) : لا نفياً و لا إثباتاً .
( و إذا تنبّهت إلى زوايا المثلث تحدث لها أيضاً صورة في ذهنك ) : أي تحدث لتلك الزوايا صورة أيضاً في ذهنك .
( و هي أيضاً من التصور المجرّد ) : من الحكم ، أي الذي لا يستتبعُ حكماً .
( و إذا رسمت خطاً أُفقياً و فوقه خطاً عمودياً مقاطعاً له تحدث زاويتان قائمتان ، فتنتقش صورة الخطين و الزاويتين في ذهنك . و هي من التصور المجرّد أيضاً) : أي خط أُفقي و في وسطه خط عمودي فتحدث زاويتين قائمتين و هذه الصورة الثالثة من الأمثلة أياً هي من التصور المجرّد الذي لا يستبع الحكم .
( و إذا أردت أن تقارن بين القائمتين ) : يعني بين الزاويتين القائمتين الموجودة على طرفي الخط العمودي .
( و مجموع زوايا المثلث ) : الثلاث .
( فتسأل في نفسك هل هما متساويان ؟ ) : أو غير متساويين ؟ فهنا إن قلت هما متساويان فمعنى ذلك أنّك جزمت و أذعنت بوقوع هذا الشيء ، و إن قلت غير متساويين فتكون قد جزمت بعدم وقوع هذه النسبة .
و تشكّ في تساويهما ، تحدث عندك صورة لنسبة التساوي بينهما . و هي من التصور المجرّد أيضاً . فإذا برهنت على تساويهما تحصل لك حالة جديدة مغايرة للحالات السابقة ) : أي للتصورات السابقة ، مجموعة تصورات و لكن لم يكن فيها أيُّ شيء ، بمعنى أي واحد من تلك التصورات لا جزمٌ فيها بوقوع شيء و لا جزمٌ بنفي وقوع شيء .
( و هي إدراكُك لمطابقة النسبة للواقع المستلزم لحكم النفس و إذعانها و تصديقها بالمطابقة ) : كما قلتُ لكم في " زيدٌ قائم " فالمثال فيه جدُّ أوضح ؛ " زيدٌ " موضوع ، تصورٌ ، " قائمٌ " محمول ، تصورٌ آخر ، نسبةٌ بين الموضوع و المحمول ، تصورٌ ثالث ، و لكن أنّ النسبةَ واقعةٌ في الخارج فهذا ليس تصوّر و إنّما هو تصورٌ يستتبع جزماً و حكماً و إذعاناً من النفس .
( و هذه الحالة أي " صورةُ المطابقة للواقع التي تعقلتها و أدركتها " هي التي تُسمّى " بالتصديق " ) : إذن ، ما هو التصديق ؟ قل هو : تصورٌ معه إذعان و معه حكم .
هنا فقط سؤال ، و هو : عندما نقول : " تصورٌ معه حكم " يعني أنّ التصديق مركّب من جزئين " تصور ٍ و حكم " أو هو واحد ؟ نريد أن نقول هو واحد و ليس اثنين ، لأنه لو قلنا اثنين يلزم أن يكون مركّب من جزئين ، من تصورٍ و من حكم ، و القسمةُ قاطعةٌ للشركة ـ لا أدري إن كنتم درستم ذلك أم لا ـ و لكن لا بأس بتوضح معنى ذلك .
معنى أن القسمة قاطعةٌ للشركة :
ـــــــــــــ
أنت عندما تقول : " العلمُ إمّا تصورٌ و إمّا تصديق " فمعنى ذلك أنّه لا التصور هو التصديق و لا التصديق هو التصور ، أنت ـ جنابك ـ عندما تقوا : " الكلمةُ إما اسمٌ و إما فعلٌ و إما حرف " فما معنى هذا التقسيم ؟ نحن قلنا القسمة قاطعة للشركة ، فيكون معنى ذلك أن الحرف لا يُمكن أن يكون فعلاً ، و إلاّ لو أمكن أن يكون فعلاً لما كانت القسمة صحيحة ، و أنت بعد ذلك تستطيع أن تقول : أنّ الحرفَ غير الفعل و غير الإسم و أنّ الفعل غيرهما ، و أنّ الإسم غيرهما .
فهنا أيضاً عندما نقول " العلمُ إما تصورٌ و إما تصديقٌ " يعني ذلك أنّ التصور غير التصديق و أنّ التصديق غير التصوّر ، فإذا عرّفنا التصديق بأنّه " تصوّرٌ مع حكم " فإنه يلزم من هذا أن يكونَ أحدُ القسمين جزءاً في القسم الآخر و هو محالٌ ، إذن ، بعد هذا لا يُعقل أن يكون التصديق مركبٌ من جزئين ، من تصورٍ و من حكم ، بل هو شيءٌ واحد . أي أنّ " التصوّر" هنا هو " الحكم " ، نضرب مثال آخر :
جنابك تقول : " الإنسان هو الحيوان مع الناطق " فهل معنى ذلك أن الإنسان مركب من جزئين الحيوان في جزء و الناطق في جزء ، أم أنّ الإنسان شيءٌ واحد هو " الحيوان الناطق " ؟ نعم معنى ذلك أن الإنسان شيءٌ واحد هو " الحيوان الناطق " فهنا أيضاً عندما نقول أن التصديق هو " التصور مع الحكم " لا نريد أن نقول التصور جزءٌ و الحكم جزءٌ آخر ، بل هما شيءٌ واحد ، أي نريد أن نقول : هذا التصور هو الحكم ؛ و عندنا تصوّرٌ ليس بحكم .
إذن تبيّن بأنّ العلم كلُّه تصور و لكن تصور و ليس بحكم و تصورٌ هو حكم ، إذن كلاهما تصور ، و لكن حتّى نميّز بينهما سميّنا أحدهما " تصور " و سمينا الآخر " تصديق " و إلاّ في واقع الأمر كلاهما تصوّر ، و لكن تصورٌ هو حكم و تصور ليس بحكم .
فلهذا ـ هنا ـ التعبير الوارد من المصنّف بأنّه " تصورٌ يستتبع ... " لا يتبادر إلى أذاهنكم بأنّ التصوّر شيءٌ و الحكم شيءٌ آخر ، فهما ليسا اثنين بل هما شيءٌ واحد .
( لأنها إدراكٌ ) : أي التصديق إدراكٌ .
( يستلزم تصديق النفس و إذعانها ) : أي و إذعان النفس .
( تسمية للشيء باسم لازمه الذي لا ينفكُّ عنه ) : الآن هو في معرض الإعتذار أنّ التصور و الحكم و الإذعان لازمٌ و ملزوم ، و لكن بعبارةٍ أدقّ نستطيع أن نجعل أحدهما عينِ الآخر ، نعم بحسب تحليل العقل أنت تميّز فتقول : تصوّر و حكم ، و إلاّ بحسب الوجود الخارجيّ هما شيءٌ واحد لا اثنين ، تصوّرٌ هو حكم و تصورٌ ليس بحكم .
النصّ :
} إذن : إدراكُ زوايا المثلث ، و إدراكُ الزاويتين القائمتين ، و إدراكُ نسبة التساوي بينهما كلها ( تصوّرات مجرّدة ) لا يتبعها حكمٌ و تصديق . أمّا إدراكُ أنّ هذا التساوي صحيح واقع مطابق للحقيقة في نفس الأمر فهو ( تصديق ) .
و كذلك إذا أدركت أنّ النسبة في الخبر غير مطابقة للواقع ، فهذا الإدراك ( تصديق ) {.
ـــــــــــــــــــ0
الشرح :
( إذن : إدراكُ زوايا المثلث ، و إدراكُ الزاويتين القائمتين ، و إدراكُ نسبة التساوي بينهما كلها ( تصوّرات مجرّدة ) : فمعنى ( تصورات مجرّدة ) أي لا حكم فيها .
( لا يتبعها حكمٌ و تصديق ) : هذه الجملة فقط للمتخصّصين ، فأنا ـ كما ترون ـ بعض النكات أذكرها و لم أشرحها و ذلك حتّى أنّ المتخصّصين عندما يستمعون إلى الكاسيت أو إذا كان بعضهم موجود في الدرس أيضاً يستفيدون من أحد المطالب حتى لا نكون نحن ـ فقط ـ نتكلّم للمبتدئين في المسألة ، فنقول : الحكم و التصديق ليسا من المترادفين ، الحكم له معنىً و التصديق له معنىً ثانٍ ، و لكن الآن ـ المصنّف ـ يستعملهما بعنوان أنّهما مترادفان .
( أمّا إدراكُ أنّ هذا التساوي صحيح واقع مطابق في نفس الأمر ) : و في الواقع .
( فهو تصديق ) : فهو التصديق .
( و كذلك إذا أدركت أنّ النسبة في الخبر غير مطابقة للواقع ) : إذن عندما نقول " تصديق " ليس شرط أنها ـ أي النسبة ـ تكون ثبوتيّة " إثبات " ، بل قد تكون النسبة سلبيّة " نفي " ، و بعبارة أُخرى : إمّا أن تُدرِكَ أنّ النسبة بين " زيد " و " القيام " متحقّقة و إمّا أن تُدركَ أن النسبة بين " زيد " و " القيام " غيرُ متحقّقة ؛ فأيضاً هذا إدراٌ بالنسبة .
النصّ :
} تنبيهٌ : إذا لاحظت ما مضى يظهر لك أنّ التصوّر و الإدراك و العلم كلّها ألفاظٌ لمعنىً واحد ، و هو : حضور صور الأشياء عند العقل . فالتصديق أيضاً تصوّرٌ و لكنه تصوّرٌ يستتبع الحكم و قناعة النفس و تصديقها . و إنّما لأجل التمييز بين التصوّر المجرّد أي غير المستتبع للحكم ، و بين التصوّر المستتبع له ، سمّي الأول ( تصوراً ) ، لأنه تصوُرٌ محض ساذج مجرّد ، فيستحقّ إطلاق لفظ ( التصوّر ) عليه مجرّداً من كلّ قيد ، و سمّي الثاني ( تصديقاً ) ، لأنه يستتبع الحكم و التصديق ، كما قلنا تسميةً للشيء باسم لازمه { .
ـــــــــــــــــــــ0
الشرح :
( تنبيهٌ : إذا لاحظت ما مضى يظهر لك أنّ التصوّر و الإدراك و العلم ) : أي العلم الحصولي ، لأنه بعض المحشين يُشكِل على المصنّف يقول : بأنه لماذا قال ( و العلم ) فالعلم لا يُرادفُ الإدراك و التصوّر ؟ الجواب : نقول : ليس المراد من العلم هنا مطلقُ العلم حتّى الحضوري و إنما المراد من العلم هنا خصوص الحضوري فقط .
( كلها ألفاظٌ لمعنىً واحد ، و هو : حضورُ صور الأشياء عند العقل ) .
( فالتصديقُ أيضاً تصوّرٌ و لكنّه تصوّرٌ ) : و لكن أيّ نوع من أنواع التصوّر ؟ قال :
( يستتبعُ الحكم ) : أي تصورٌ فيه حكمٌ ، أمّا التصوّر المجرّد ما هو ؟ هو التصوّر الذي لا يوجدُ فيه حكمٌ ، إذن ، تبيّن أن العلم نستطيع أن نقسمه فنقول : هو تصوّرٌ لا يوجدُ فيه حكم ، و تصوّرٌ هو حكم ؛ إذن ، لماذا ـ شيخنا ـ سميّت هذا الثالث تصديق ؟ يقول :
لأجل التمييز، أي حتّى نميّز فلا يقع اختلاط ، لأنّه كلّه يُطلق عليه تصور فقد يختلطُ على المبتديء ، و لأجل أن لا يختلط على المبتديء ميّزنا بينهم .
( و قناعة النفس و تصديقها ) : أي و تصديق النفس ، إذاُ ، لماذا سميت أحدهما تصور و الآخر تصديق ؟ قال :
( و إنّما لأجل التمييز بين التصوّر المجرّد أي غير المستتبع للحكم و بين التصوّر المستتبع للحكم سمي الأولُ تصوراً ... و سمّي الثاني تصديقاً ) : و إلاّ كلاهما هو تصوّر .
( لأنه تصورٌ محض ساذِج ) : ساذِج ، يعني بمعنى ساده ، و معنى " ساده " يعني هو فقط لا شيء آخر معه ، فأنت عندما تقول : هذا القماش قماش ساده ، فمعنى " ساده " يعني ليس فيه ورود أو نقوش و ماشابه ، فهنا أيضاً عندما تقول : تصورٌ ساذِج ، يعني " ساده " أي ليس معه شيء آخر .
( مجرّد ) : أي لا يستتبع حكماً ، و ليس أنه مجرّد عن المادّة .
فيستحق إطلاق لفظ التصور عليه مجرداً من كل قيد ، و سمي الثاني تصديقاً ، لأنه ) : أي لأن ذلك التصور .
( يستتبع الحكم و التصديق ،كما قلنا تسميةً للشيء باسم لازمه ) : هنا أيضاً كرر المصنف مرة أُخرى فقال : أنّ التصديقَ و أنّ الحكمَ لازمٌ للتصور ، و لكنه بنظرةٍ أعمق يتضح بأنّ التصديق أو الحكم هو غير لازم للتصور بل هو عين التصور ، كما أنّ الناطقَ عينُ الحيوان لا أنّ الناطقَ لازمٌ للحيوان بل أحدهما عينُ الآخر .
النصّ :
} أمّا إذا قيل : ( التصوّر المطلق ) ، فإنما يُراد به ما يساوق العلم و الإدراك . فيعمّ كلا التصورين : التصور المجرّد ، و التصوّر المستتبع للحكم ( التصديق ) ، { .
ـــــــــــــــــــ0
الشرح :
( أمّا إذا قيل : التصور المطلق ) : من هنا يقول ـ هذا من باب الإصطلاح ـ بعض الأحيان يعبّرون : " التصور المطلق " ، فهم عندما يقيّدون التصور بـ " المطلق " فإنما يريدون القسمين معاً ، يعني يريدون ما يشمل التصور المجرّد عن الحكم و التصور المستتبع للحكم .
( فإنما يراد به ما يساوق العلم و الإدراك . فيعمّ كلا التصورين ... ) : أعمُّ من أن يستتبع حكم أو لا يستتبع .
أمّا هنا فيأتي هذا السؤال ، و هو : أنّ التصور بم يتعلّق و أنّ التصديق بم يتعلّق ؟ يعني ما هي الأُمور التي يتعلّقُ بها التصور ، و ما هي الأُمور التي يتعلّق بها التصديق ؟ بيانه سيأتي و الحمد لله ربّ العالمين .
و به نستعين
كان الكلام في مراتب الإدراك عند الإنسان ، و قلنا بأن هذه المراتب هي :
أولاً / الحسّ .
و ثانياً / الخيال لا المتخيّلة .
و ثالثاً / الوهم على بعض الأقوال .
و رابعاً / العقل و القوةُ العاقلة ، و التي تميز الإنسان عن غيره من باقي الحيوانات ، و لولا وجودُ هذه القوة ، و هي القوةُ العاقلة عند الإنسان ، و المفكرة ، و التي يقع فيها الإستدلال و التفكير ، و السير من المعلوم لكشف المجهول لم نحتج إلى علم المنطق ، لأن الخطأ و الاشتباه إنما يقعُ في هذه المرحلة ؛ و من هنا احتجنا إلى علمٍ يستطيع أن يقوّم عملية الاستدلال عند الإنسان ، و السبب : باعتبار أن القوى الأُخرى هنا قد تتدخّل فتخطّأ عملية الاستدلال .
مثال توضيحي :
أنا الآن أضرب مثالاً حتى يتّضح أنّ القوى الأُخرى كيف تستطيع أن تحرِفَ القوة العاقلة عن مسيرتها المرسومة لها :
الإنسان ينام إلى جنب ميّتٍ في الليل ، فهنا العقل ماذا يقولُ له ؟ و الوهم ماذا يقولُ له ؟ فأمّا بالنسبة للعقل فلو سألته يقول : جامدٌ كأيّ خشبةٍ جامدة لا فيها أثرٌ و لا منها خوفٌ و لا وحشةٌ و لا غير ذلك ، و لكن عندما تأتي إلى الوهم ماذا يقول ؟ ترى أن الوهم يصوّرُ لك ألف صورةٍ فيجعلُك تستوحش من البقاء آنٍ واحدٍ إلى جنبه ، أنت تدخل إلى مكان مضيئ فلا تأخذك الوحشة ، و لكن نفس ذلك المكان أو اظلمّ لأخذتك الوحشة في نفس ذلك المكان ، فلو سألت العقل لقال العقل بأن لم يحدث شيء و إنما الأمر أنه كان هناك نور و الآن لا يوجد هناك نور ، لم يتغير شيء ، إذن ، بحسب منطق الاستدلال لا فرق بين حالة النور و حالة الظلمة ، و لكن الوهم لا يستطيع أن يفهم هذا فيتوحّش في مثل هذه الحالة أو تأخذه الوحشة و الاضطراب ، و هذا معناه أنّ القوة الواهمة تتدخل في القوى العقلية أو في قوة العاقلة و الاستدلال العقليّ ، و حتى نقف أمام هذه التدخلات من القوى الأُخرى، طبعاً في القوى الحسيّة أيضاً كذلك لأن الحس يخطأ فمن يقوّم خطأ الاحساسات و الأُمور و الاحساسات الموجودة عند الإنسان فأيضاً يحتاج إلى ميزان و ضابطة و طريقٍ يستطيعُ على أساسه أن يميز الصحيح من السقيم فيما يرتبط بالهيئة و فيما يرتبط بالمادّة ؛ فلهذا قال ( و علم المنطق وُضِعَ من بين العلوم لأجل تنظيم تصرفات هذه القوة ) مادةً و هيئةً ، و نحن مراراً ذكرنا أن علم المنطق لا يختصّ بتنظيم الهيئة دون الصورة و إنما يشملهما معاً ( خوفاً من تأثير الوهم و الخيال عليها ) أي على القوى العاقلة ( و من ذهابها ) أي القوة العاقلة ( في غير الصراط المستقيم لها ) و الطريق الصحيح الذي رُسِمَ لها .
النصّ :
} تعريف العلم :
و قد تسأل : على أي نحو تحصل للإنسان هذه الإدراكات ؟ و نحن قد قرّبنا لك فيما مضى نحو حصول هذه الإدراكات بعض الشيء ، و لزيادة التوضيح نكلّفك أن تنظر إلى شيء أمامك ، ثمّ تطبق عينيك موجّهاً نفسك نحوه ، فستجد في نفسك كأنّك لا تزال مفتوح العينين تنظر إليه ، و كذلك إذا سمعت دقات الساعة ـ مثلاً ـ ثمّ سددت أُذنيك موجهاً نفسك نحوها ، فستحسّ من نفسك كأنك لا تزال تسمعها ... و هكذا في كلّ حواسك . إذا جرّبت مثل هذه الأُمور ، و دققتها جيداً ، يسهل عليك أن تعرف أنّ الإدراكات أو العلم إنّما هو انطباع صور الأشياء في نفسك ، لا فرق بين مدركاتك في جميع مراتبها ، كما تنطبع صور الأشياء في المرآة . و لذلك عرّفوا العلم بأنّه :
" حضور صورة الشيء عند العقل " .
أو فقل انطباعها في العقل ، لا فرق بين التعبيرين في المقصود { .
ــــــــــــــــــــــ0
الشرح :
تعريف العلم :
ـــــ
( تعريفُ العلم ) : إلى هنا اتضح لنا بأنّ الإنسان ما هي المراحل التي يمرّ بها لكي يصل إلى القوة العاقلة ، إذن لا يبدأ مع العلم ، و إنما يولد عاقلاً بالوهم و بعد ذلك بالعلم يكونُ عاقلاً بالفعل ، و إلاّ مذ يولد فإنه عاقلٌ بالقوة لا أنّه عاقلٌ بالفعل ، بل لعلّه أيضاً حاسٌّ بالقوة متخيّلٌ له قوة الخيال في القوة ، و له أيضاً و هم بالقوة ، و هذه الأمور و قوانينها موكولة إلى محلها من الفلسفة ، فالحركة الجوهرية في علم النفس الإنسان يترقى في مدارج الكمال إلى أن يصل إلى القوة العاقلة فيكونُ عاقلاً بالفعل ، أي يكون إنساناً بالفعل
و أمّا تعريف العلم ، فنحن هنا عندما نقول : ما هو تعريفُ العلم ؟ فإننا لا نريد أن نبحث أنّ العلم ما هو جنسُه و فصلُه ، إنشاء الله سيأتي بعد ذلك أننا ندخلُ في بحث التعريف ، و التعريف إمّا حدٌّ و إما رسم و الرسم إمّا تام و إما ناقص و الحدّ كذلك ، فماهو التعريفُ الحدّي التام ؟ هو الذي يشتملُ على على الجنس و على الفصل ، ما هو الجنس ؟ هو الأمر الأعمّ ، ما هو الفصل ؟ هو الأمر الأخصّ ، ما مرّ هو التعريفُ المنطقي ، و أمّا هنا ـ في تعريف العلم محلّ الكلام ـ عندما نسأل ما هو العلم هل ـ أيضاً ـ نبحثُ عن جنسٍ و فصلٍ , ووو نحو ذلك أو ليس الأمرُ كذلك ؟ هنا يوجدُ اختلافٌ بين المناطقة فبعضٌ يرى أنّ العلم قابلٌ للتعريف و بعضٌ لا يرى أنه قابلٌ للتعريف .
هذا التعريف الذي يذكره ـ المصنف ـ هنا ، مبني على تلك النظرية التي ترى أنّ العلم قابلٌ للتعريف ، يعني تعتبر ـ تلك النظرية ـ العلم كيفاً نفسانيّاً ، و إنشاء سيأتي بحثٌ بعد ذلك بأنه ما هو المراد من الجوهر ، ما هو المراد من العرض ثم العرض على أقسام : كيفٌ ، كمٌّ و نحو ذلك ، ثم الكيف على أقسام : كيفٌ نفساني ، كيفٌ محسوس ، كيفٌ استعدادي ، كيفٌ مختصٌّ بالكميات ، قد يجعلون العلم داخل تحت الكيف النفساني ، و هذا تفصيلُه موكول إلى دراسات أُخرى . المهم أنه ـ العلم ـ مبني على تلك النظريّة التي ترى أنّ العلم قابلٌ للتعريف و إلاّهناك نظرية أُخرى تقول : أنّ العلم ليس قابلاً للتعريف ، لماذا ؟ لأنّ كلّ شيءٍ إنما يتصفُ بالعلم ، فالعلمُ هو منكشفٌ بذاته و كاشفٌ لغيره ، من قبيل " النور " فإن هذا " النور " هل يوجد هناك شيءٌ يكشفُه أو هو كاشفٌ لكلّ شيء ؟ هو كاشفٌ لكلّ شيء و ليس نحن نكشفُه ، هو مكشوفٌ بنفسه لا يحتاج أن يكشفَه ، فأنت ـ مثلاً ـ لا تستطيع أن ترى هذا الكتاب إلاّ في النور ، إذن هذا الكتاب منكشفٌ بنفسه أو منكشفٌ بالنور ؟ منكشفٌ بالنور و إلاّ في الظلمة أنت لا تستطيع أن تراه هو ـ الكتاب ـ ، إذن ، انكشافُه لك كان بغير لا بنفسه ، و أمّا النور فمنكشفٌ بنفسه لا بغيره ، فهو المنكشفُ بنفسه و الذي ينكشفُ به غيرُه ، و العلم أيضاً ، كلُّ شيءٍ ينكشفُ بالعلم ، فالعلمُ يكونُ منكشفاً بنفسه ، فهذه النظرية تقول : أنّ العلم لا تعريف له .
فبناءً على النظرية الأولى ـ أن العلم قابلٌ للتعريف ـ عُرِّف العلم بأنه : " حضور صورةُ الشيء عند العقل " ، فقوله " حضور صورةُ الشيء " باعتبار أننا قلنا بأنه في العلم الحصولي لا يحضرُ نفسُ وجودِ الشيء و إنما تحضُرُ صورة من ذلك الشيء ، و لكنّ السؤال الذي يُطرحُ هنا هو : أننا عندما نقول " صورة " ماذا يُرادُ من الصورة ؟
الآن أنا عندما أقول " صورة " فإنه يتبادر إلى أذهان أكثر الأُخوة أن الصورة يعني الشكل الهندسي و الشكل الذي هو الطول و العرض و العمق ! لا ، ليس مرادنا من الصورة في المنطق يعني الشكل الهندسي الطول و العرض و العمق ، لا ، لأنه كثير من الأُمور التي ندركها لا صورة لها ، فمثلاً نحن نُدرك الممتنعات و الممتنعات لا صورة لها لأنه ليس لها وجود أصلاً حتى تكون لها صورة ، فـ " شريك الباري " ممتنعٌ أو ممكنٌ ؟ ممتنعٌ ـ كما قرأتم ـ لأن شريك الباري ليس له صورة ، الكتاب له صورة ـاخذها منه في ذهنك و أمّا " شريك الباري " فليس له صورة حتى تأخذ تلك الصورة في ذهنك ، الشجرة لها صورة ـ وجود خارجي ـ تأخذها منها في ذهنك كالصورة الفوتوغرافية ـ مثلاً ـ و لكن " شريك الباري " ليس له وجود خارجي حتى نأخذ منه صورة في ذهننا .
إذن ، عندما نقول " صورة " ليس مرادنا الشكل الهندسي ، و إنما مرادنا من الصورة : كلُّ معنىً يُتعقّل ، كلُّ معنىً يُدرَك ، هذا هو مرادُنا من " الصورة " في المنطق ، فإذن ، ليس مرادنا من " حضور صورة الشيء " يعني الشكل الهندسي للشيء ، الآن ـ جنابك ـ تُدركُ ـ بالعلم الحصوليّ ـ أنّك خائف أو لا تُدرِكُ أنّك خائف ؟ يعني تقول : أنا خائفٌ أو كنتُ خائفاً ، فهذا " كنتُ خائفاً " ليس علم حضوري بل هو علمٌ حصولي ، لماذا ؟ لأنه الآن نفس الخوف غير موجود و إنما الموجود هو صورة من الخوف ، و هذه الصورة من الخوف طولها متر ، نصف متر ، ربع متر ؟ نقول : من الواضح أنّ الخوف ليس له صورة و لا شكل حتى أنك تقول : هذه الصورة مثلثة أو مربعة أو ... ! نعم " هذا الكتاب " ، " هذه الشجرة " ، " هذا الميكروفون " له صورة ، و لكنه تلك المعاني المدرَكَة من قبيل " الخوف " و " الفرح " و ... هذه كلها مدرَكَة و لكن ليس لها صوراً ـ أي وجود خارجي ـ بالمعنى الهندسي .
إذن ، عندما نقول ـ هنا ـ " حضور صورةُ الشيء " فلا يتبادر إلى الذهن أن المراد منها " الصورةُ العُرفية " يعني ما له شكلٌ هندسي كهذه الصورة التي نتعارفُ عليها و هي صورة الإنسان ، لا ليس ذلك ، نعم بعض الأُمور الحاضرة عند الإنسان تكونُ من هذا القبيل ، و هو أنّها لها شكلٌ هندسي ، و لكن بعض الصور الحاضرة في ذهن الإنسان و التي يُدركها إمّا بحسّه و إمّا بخياله و إمّا بعقله فإنّه لا صورةَ هندسيّة لها و إن كان لها نوعُ إدراكٍ عند الذهن البشري ، يعني " حضورة صورة الشيء " يشمل ذاك الذي له شكلٌ هندسي و ليس الذي له شكلٌ هندسي ، كما مثّلتُ لكم في " الخوف " فأنت تقول : كنتُ بالأمس خائفاً ، فهذا الخوف الآن حاضرٌ عندك بالعلم الحصولي ، و لكن ما هي صورة الخوف ؟ لا صورة له ، ما السبب لهذا الخوف ؟ لنفترض أنّ سببه " الحيوان المفترس الكذائي " فأنت عندما تقول " خائف " تتصور الأسد ؟! أو أنك تتصور معنى الخوف بشكل آخر ؟ فالسبب من الخوف هو الإدراك الخاص و أنت لا علاقة لك به ، و أنت ـ أيضاً ـ عندما تقول " أنا فرِحٌ " فلا يذهب ذنهك إلى الصورة الخارجية و التي سبّبت لك هذا الفرح ، و إنما معنى " الفرِح " واضحٌ أمامك فتتصوره و يرتسم في ذهنك بشكل آخر لا أنه ترتسم و تتصور صورة الشيء الذي أفرحك أو كنت خائفاً منه .
( و قد تسأل : على أيّ نحوٍ تحصل للإنسان هذه الإدراكات ؟ ) : أي الإدراكات الحسيّة ، و الخياليّة ، و الوهميّة ، و العقليّة ؛ هذه الإدراكات من أين تحصل ؟
( و نحن ) : في مقام الجواب .
( قربنا لك فيما مضى نحو حصول هذه الإدراكات بعض الشيء ) : و نسأل هنا : لماذا ـ شيخنا ـ قلت " بعض الشيء "باعتبار أنّه الذي ذكرته لنا هو حصول الإدراكات التي لها وجودٌ خارجي ، أمّا تلك الإدراكات التي ليس لها وجودٌ خارجي أن الإنسان من خلال حواسه يرتبط بالأُمور الخارجية ، إذن من خلال الحواسّ يستطيع أن يأخذ الصورة عن الأشياء الموجودة أمّا الأشياء الغير الموجودة فمن أين يأخذ صورها ، إذ لا وجود لها ؟
أنت تقول " اجتماع النقيضين محالٌ " فهل أنت لديك " اجتماع نقيضين " في الخارج حتّى تقول اجتماعهما محالٌ ؟ لا ، لأنك تقول اجتماعهما محالٌ ، إذن أنت عندك صورة في ذهنك من ذلك أم لا ؟ طبيعي ، أنت عندما تريد أن تحكم بحكمٍ لا بد أن تتصوّر الموضوع ، فهذا الموضوع " اجتماعُ النقيضين " ليس له جود خارجي ، و إنما وجوده و صورته في الذهن ، أي من المكان الذي أخذته منه و هو الذهن .
إذن ، بيّنا لك حصولَ هذه الإدراكات بعض الشيء ، أي بينا لك تلك الإدراكات التي يكون لها وجودٌ خارجي و أمّا التي ليس لها وجود خارجي فله حديثٌ آخر .
( و لزيادة التوضيح نكلّفُك أن تنظُرَ إلى شيءٍ أمامك ) : كهذا الكتاب الذي أمامي ـ مثلاً ـ .
( ثمّ تُطبّقُ عينيك موجهاً نفسك نحوه ) : أي نحو ذلك الشيء المنظور .
( فستجدُ في نفسك كأنك لا تزالُ مفتوحَ العينين تنظُرُ إليه ) : و هذا هو العلمُ الخيالي ، و نحن بينا فيما مضى الفرق بين الإحساس و الخيال ، فإذا أغمضت عينك و تصورت نفس الكتاب ، هذا نسميه ـ أي انقطاع الصورة عن الخارج ـ خيال .
( و كذلك إذا سمعت دقات الساعة ـ مثلاً ـ ثمّ سددت أُذُنيك موجهاً نفسك نحوها ) : أي نحو دقات الساعة .
( فستحسُّ من نفسك كأنّك لا تزالُ تسمعها ... و هكذا في كلّ حواسّك ) : الظاهرة التي أشرنا إليها .
( إذا جرّبت مثل هذه الأُمور و دققتها جيّداً ، يسهل عليك أن تعرف أنّ الإدراكات أو العلم ) : أي إدراك و أي علم ؟ نقول : يجب هنا تقييد الإدراك أو العلم فنقول : الإدراك أو العلم الحصوليّ ، لأنه نحن لا نتكلم هنا في مطلق العلم الأعم من الحضوري و الحصولي ، فإذن مراده من قوله ( الإدراك أو العلم ) إنّما هو خصوص العلم الحصولي كما هو مبيّن و أشرنا إليه .
( إنّما هو انطباعُ صور الأشياء في نفسك ، لا فرق بين مدركاتك في جميع مراتبها ، كما تنطبعُ صور الأشياء في المرآة ) : سواءٌ كان حسّاً ، عقلاً أم خيالاً إلى غير ذلك .
المسامحة في تعبير " الإنطباع " :
ــــــــــــ
هذا التعبير بـ ( الإنطباع ) فيه نوع من المسامحة ، و لكن هذه المسامحة أنا الآن لا أستطيع أن أُوضّحها على الأُخوة ، أُنظر ، هذا تعبير " الإنطباع " يوحي لك بهذا الشكل و هو : أنّ النفس كهذه السبورة ، فأنت عندما تنظر إلى هذا الكتاب فصورة هذا الكتاب أين تنطبع ؟ هذا معنى الإنطباع ، فأنت عندما تقول : انطبع هذا الشيء في نفسي ، يوحي لك ذلك الإنطباع أن هناك شيئاً ، أو صفحة فارغة لا يوجد فيها أيُّ شيء ، و عندما أعلمُ شيئاً تنطبعُ عليها صورة ذلك الشيء ، يعني تنتقش فيها الصور ، و لكن هذا التصور عن العلم صحيح أو خاطيء ؟ نقول : هذا التصور عن العلم خاطيء قطعاً و غير صحيح ، و السبب : لأنه ـ جنابك ـ في بعض الأحيان صفحة النفس كم مساحتها ؟ كبيرة ، ألآن لا نقول أنها بقدر المخ و الدماغ و لكن لنقل أنها بقدر طولك ، و لكن أنت في بعض الأحيان تنظر إلى مناظر مساحتها عشرين كيلو متر في عشرين كيلو متر ، فهذه أين تنطبع ؟ تنطبع في النفس ، و لكن تنطبع في النفس صغيرة أو كبيرة ؟ فإن قلت تنطبع صغيرة فإذن من أين تأتي هذه الكبيرة من الخارج ؟ فإذا انطبعت على صفحة نفسك تنطبع صغيرة أم كبيرة لأن الصورة في الواقع الخارجي كبيرة ، و إن أدركت الواقع على كبره فهذا معناه أن انطباع الكبير صار في الصغير و هو محال لأنّ المساحة هي عشرة سنتيمترات أو مترين أو ثلاثة أمتار فهل ممكن أن ينطبع فيها شيءٌ بمساحة عشرين كيلو متر ، فإذن العلم ليس بهذا الشكل الذي يتبادر إلى ذهن الإنسان ، يعني أنا قبل أنظر إلى هذا الكتاب نفسي فارغة ، لوحة بيضاء و لكن بعد أن نظرتُ إليها أو لمستُها بإحدى الحواسّ الخمس فينطبعُ شيءٌ في نفسي خصوصاً هذا الذي يؤكدُ هذه المسامحة ، هذا المثال الذي يضربه المصنّف ، يقول كما تنطبع صورُ الأشياء في المرآة ، فأنت عندما تقف أمام المرآة أين تنطبع صورتُك ؟ في المرآة ، و السؤال : أنت عندما تقف أمام المرآة صورتُك تراها في المرآة ، فهل هذا يعني أن هناك شيء في المرآة أم لا ؟ صورة توجد في المرآة أم لا ؟ توجد صورة ، و لكن هذه الصورة مطبوعة في المرآة أم في النفس ؟ مما لا شك أن الصورة مطبوعة في المرآة ، و المرآة فيها سمك ، و لكن أنت سُمكُك تراه في المرآة أم لا ؟ لا ، لأن الصورة التي في المرآة ليس فيها سمك ، و إذا كان ليس فيها سمك فما هذا الذي تراه في المرآة ؟ فإذا قلت لا يوجد في المرآة شيء فإذن ما هذا الذي تنظر إليه أليس هو صورتُك ! و إن كان في المرآة شيء فأين مكانه ؟
إذن ، هذه الأمثلة التي تُضرب إنما نضربها فقط لتقريب المطلب إلى ذهن المستمع و ذهن الطالب ، و و اقع الحال أيضاً هو ليس هكذا ، واقع الحال هو مطلب أكثر دقّة و أعمق من هذا ، و أنا إنما ذكرت هذا لماذا إذ كان بإمكاني أن أقول " إنطباع " و أتجاوز ، السبب : لأن الطالب إذا من الآن نحن قلنا له هذا المطلب و تصور أنّ العلم هو هذا فإنه سيظل عشر سنوات يتصور أن العلم هو هذا الإنطباع ، و أنت بعد عشر سنوات إذا أردت أن تُخرج هذا من ذهنه فهذا مشكل حيث لا تستطيع ، فإذن من الآن فليعلم المستمع و الطالب أنه الآن نحن عندما نقول " انطباع " فإنه ليس مرادنا المعنى الحقيقي له ـ أي للإنطباع ـ و إنما ـ فقط ـ لتقريب المطلب إلى ذهن الطالب ، هذا أولاً .
و ثانياً : أنت إذا غابت هذه الصورة فتأتي من أين ؟ من الخارج ، فإذا كانت تأتي من الخارج فهل يُعقل أن يُخطأ أحدٌ الخارج أم لا ؟ أنت إذا صورتك أخذتها من الخارج و حواسّك كانت تامّة فهل يُمكن أن تخطأ أو لا ؟ لا يُمكن أن تخطأ و لكن مع ذلك أنت كثيراً ما تخطأ في علومك ، فإ1اً ، تبيّن أنّ هذه الصورة أنت لم تأخذها من الخارج و إنما أخذتها من مكانٍ آخر ، أنت تقول أنا الآن أنظر إلى هذا الكتاب ، فهذه الصورة التي جاءت في ذهنك عن الكتاب جاءت من أين ؟ من أين أخذتها ؟ إذا كنت أخذتها من هذا الكتاب فلا بدّ أن لا تُخطِأ ، و لكن مع ذلك أنت في بعض الأحيان تُخطِأ ، فإذن تبين أنّ الصورة لم تأخذها من هنا ، أي من الكتاب ، إذ لا يُمكن أن تكون أخذتها من الكتاب لأنك إن كنت قد أخذتها من الكتاب فلا بدّ أن لا تُخطِأ .
إذن ، فليكن في ذهن الأُخوة أن انطباع صور الأشياء في الذهن مستحيل لأنّ الذهن لا واقعيّة له بهذا المعنى الذي يتبادر إلى الذهن بل له معنىً أدق و أعمق و هذا انشاء الله موكولٌ إلى دراسات فلسفيّة و منطقية أعمق من دراستنا هذه .
( و لذلك عرّفوا العلم ) : أي العلم الحصوليّ .
( حصورُ صورةُ الشيء عند العقل ) : طبعاً ، هنا عندما نقول " عقل " ليس مرادنا القوة العاقلة ، بل تشمُلُ الخيالية و الحسّ و الوهم ، فهذه كلُّها حاضرة عندها الصورة .
السؤال الأخير الذي يرتبطُ بهذا البحث ، هو : أنني عندما أقول " أنا عالمٌ بالشيء " فأنت عالمٌ بالشيء الخارجي أو عالمٌ بالصورة الذهنية ؟ عالمٌ بالصورة الذهنية ، فإذا كنت عالمٌ بالصورة الذهنية لا بالشيء الخارجي فإذن لماذا تقول " أنا عالمٌ بوجود الكتاب في الخارج " ؟ نقول : أننا نقول ذلك من حيث أن هذه الصورة منطبقة تماما الإنطباق مع الوجود الخارجي ، فعندما تعمل الصورة أنت تقول " أنا عالمٌ بالوجود الخارجي " و إلاّ أنت ليس بعالم بالوجود الخارجي و إنما عالمٌ بصورة الوجود الخارجي لا بالوجود الخارجي ، و إلاّ لو كنت عالماً بالوجود الخارجي لكان علمُك حضورياً لا حصولياً ، لأنه إذا علمت بالوجود الخارجي و حضر عندك الوجود الخارجي صار علماً حضورياً , و إذا صار علماً حضورياً ، يعني إذا علمت بالنار فلا بد أن يحترق ذهنك أيضاً عند تصور النار في الذهن لأن النار موجودة ! مع أنه أنت تعلمُ بالنار و لا يحترقُ ذهنك ، و هذا معناه أنك تعلمُ بصورة النار لا أنك تعلمُ بالنار ، و من هنا يصطلِحُ العلماء يقولون : أنّ الإنسان يعلمُ صورة الشيء و هذه الصورة يعبّرون عنها بـ " معلوم ذاتي " هي المعلومة أولاً و بالذات ، و هذا الوجود الخارجي يعبّرون عنه بمعلوم أيضاً و لكن معلوم ثانياً و بالعرض لا معلوم أولاً و بالذات .
إذن ، أنت عندما تقول " أنا عالمُ بوجود زيد " حقيقة الكلام يرجِعُ إلى أنّك عالمٌ بصورة وجود زيد ، و لكن حيثُ أنّ العالم دائماً يرى أنّ علمَه مطابقٌ للواقع الخارجيّ فيقول " أنا عالمٌ بالوجد الخارجي " و إلاّ في واقع الحال هو ليس عالماً بالوجود الخارجي و إنما هو عالمٌ بالصورة الذهنية ، أي عالمٌ بالوجود الذهني لذلك الوجود الخارجي .
( أو فقل انطباعها في العقل لا فرق بين التعبيرين في المقصود ) : يعني انطباعُ صور الأشياء في العقل .
النصّ :
} التصوّر و التصديق { .
ــــــ0
الشرح :
بعد أن اتضح لنا ما هو العلم و كيف يحصَلُ العلم للإنسان ، ننتقلُ إلى أقسام العلم ، أي العلم الحصولي ، ما هي أقسام العلم الحصوليّ ؟ قالوا أنّ العلم الحصوليّ ينقسمُ إلى تصورٍ و إلى تصديق ، ما هو المراد من التصور ، و ما هو المراد من التصديق ؟
معنى التصور :
ـــــ
التصوّر : و اضحٌ عند الجميع ، و المراد منه : تلك المفاهيم التي تتعرّفُ عليها و لا تجزِمُ بوجودها أو عدم وجودها ، لا يوجدُ فيها حكمٌ من النّفس ، و لا إذعانٌ و تصديقٌ من النفس ، أي فقط تصورات لا شيء غيرها .
أنت جنابك ، عندما أقول لك ما هو المثلث ؟ أنت تقول : المثلث كذا و كذا ، أنت عندك في ذهنك صورة عن المثلث أو لا ؟ نعم عندك صورة عن المثلث ، أمّا أنّ هذه الصورة موجودة في الخارج أو غير موجودة في الخارج ، أحكامها ما هي ، قوانين المثلث ما هي ، زواياه تساوي قائمتين أو لا تساوي قائمتين ، و و و ... ؟ هذه كلّها لا علاقة لك بها .
أقولُ لك " الإنسان " فأنت يتبادر إلى ذهنك معنىً معيّن من هذا اللفظ أو لا ؟ نعم يتبادر إلى الذهن معنىً معيّن ، و لكن هل الإنسان موجود في الخارج أو غيرموجود ؟ هل هو جالس أو قائم ؟ عالم أو جاهل ؛ هذه كلّها أنت في غفلةٍ عنها و لا علاقة لك بها ، فهذه المفاهيم ـ أي تلك المعاني ـ التي تأتي إلى الذهن و تضعُ لها ألفاظ من قبيل ( إنسان / بقر / سماء / أرض ... ) و نحو ذلك ، من غير أن يوجدَ معها إذعانٌ ، قبولٌ ، إقرارٌ ، جزمٌ ، حكمٌ من النفس ، هذه نسميها تصوّرات ، نعم إدراك و لكن إدراك ليس معه حكم ، ليس معه إذعان من النفس و أمثلتُه واضحة كما ستقرأون ، إنّما الكلام كلُّ الكلام في القسم الثاني و هو التصديق ، فما هو المراد من التصديق ؟
معنى التصديق :
ـــــ
التصديق ليس فقط مجموعة تصورات ، أنت الآن تقول : " زيدٌ قائمٌ " يأتي إلى ذهنك بالإضافة إلى معنى " زيد " و معنى " قيام " أنّ هناك علاقة بين الموضوع " زيد " و بين المحمول " قائم " ، فما هي هذه العلاقة ؟ نقول : لأن القيام واقعٌ و ثابتٌ لـ " زيد " و النفسُ أذعنت و قبلت بهذا ، قبلت و أذعنت لأيّ معنى ؟ يعني عندما تقول لها " زيدٌ قائمٌ " فإنّ النفس إذا كانت تعلم بوقوع " النسبة " ـ نسبة القيام ـ و " زيد " فإنها ـ النفس ـ تطمئنُّ و تسكنُ إلى هذا ، إذن ، نحن في " التصديق " عندنا مجموعة تصورات بالإضافة إلى وجود شيء وراء التصورات ، إذن ، واضحٌ أنه ليس عندنا فقط موضوع و محمول و نحو ذلك بل عندنا شيءٌ وراء ذلك و هو الذي نُعبّرُ عنه بـ " تصديق النفس " و " إذعان النفس " و " حكم النفس " هذا هو التصديق ، و لكن وقع كلامٌ بين العلماء في أنّ " التصور " و " التصورات " هي أُمور بسيطة غير مركبة من أشياء ، و " التصديق " أيضاً أمرٌ بسيط أو مركّب ؟ يوجد قولان في المسألة :
القول الأول / قولٌ يقول : بأنّ التصديق مركّبٌ من أربعة أجزاء ، الأجزاء الأربعة في قولنا " زيدٌ قائمٌ " هي : زيد ، قيام ، النسبةُ الحُكميّة القائمة بين " زيدٍ و القيام " ، ثمّ حُكمُ النفس و إذعانُ النفس أنّ هذه النسبة متحقّقة في الخارج ، إذن فالتصديق أصبح له أربعة أجزاء ، هي :
1- تصور الوجود ـ الموضوع ـ .
2- تصور المحمول ـ القيام ـ .
3- النسبةُ الحكمية ، تصورٌ ثالث ، و معناها أن هذا المحمول هل يُمكن أن يثبُت لهذا الموضوع أو لا يُمكن أن يثبُت ؟ ففي بعض الأحيان أنّ المحمولات غير قابلة أن تثبُت للموضوع كما لو قلت " الحجرُ قائمٌ " فالقيام هنا هو معنىً إرادي و لا يثبُتُ للحجر ، أو تقول " الحجرُ عالمٌ " فالعلم يثبُت للحجر أو لا ؟ لا يثبُت العلمُ للحجر ، إذن في النسبة الحكمية نحن نرى أنّ هذا المحمول يُمكن أن يثبُت للموضوع أو لا يُمكن أن يثبُتَ للموضوع ؟ و هذا أيضاً تصور من التصورات لا أكثر من هذا .
4- نعم ، إذا أذعنت النفس و صدّقت بأنّ هذه النسبة متحقّقةٌ في الواقع الخارجي لذلك يكونُ تصديقاً .
القول الثاني / قولٌ يقول : أنّ التصديق هو نفس ذلك الإذعان الذي هو الإدراك ، و هذه الأُمور الثلاثة ليست داخلة في حقيقة التصديق ، أمّا ما هو برهانُه ؟ أيضاً هناك براهين متعدّدة لبُطلان ذلك القول الأول الذي ذهب إليه الفخرُ الرازي .
القول الثاني هو الصحيح : و هو القول الذي ذهب إليه مجموعِ حكماء المتأخرين ، من أنّ التصديق أمرٌ بسيط و ليس مركباً من تصورات و نسبة حكمية و إذعان النفس بوقوعِ النسبة و عدم وقوعِ النسبة .
إذن العلمُ إمّا إدراكٌ إلى أن يستتبعَ حكماً ، و إمّا إدراكٌ يستتبع حكم ، و بعبارةٍ أُخرى :
أنّ العلم إمّا تصوّرٌ مجرّدٌ عن الحكم و إمّا تصورٌ يستتبعُ الحكم .
فالأول : نسميه " التصور " ، و الثاني : نسميه " التصديق " .
إذن ، العلمُ ينقسمُ إلى تصورٍ و إلى تصديق . قال :
النصّ :
} إذا رسمت مثلثاً تحدث في ذهنك صورةً له ، هي علمُك بهذا المثلت ، و يُسمى هذا العلم ( بالتصوّر ) . و هو تصوّر مجرّد لا يستتبعُ جزماً و اعتقاداً . و إذا تنبّهت إلى زوايا المثلت تحدثُ لها أيضاً صورة في ذهنك . و هي أيضاً من ( التصوّر المجرّد ) . و إذا رسمت خطاً أُفقياً و فوقه خطاً عمودياً مقاطعاً له تحدث زاويتان قائمتان ، فتنتقش صورة الخطين و الزاويتين في ذهنك . و هي من ( التصوّر المجرّد ) أيضا .
و إذا أردت أن تقارن بين القائمتين و مجموع زوايا المثلث ، فتسأل في نفسك هل هما متساويان ؟ و تشكّ في تساويهما ، تحدُث عندك صورة لنسبة التساوي بينهما . و هي من ( التصور المجرّد ) أيضاً .
فإذا برهنت على تساويهما تحصل لك حالة جديدة مغايرة للحالات السابقة ، و هي إدراكُك لمطابقة النسبة للواقع المستلزم لحكم النفس و إذعانها و تصديقها بالمطابقة . و هذه الحالة أي ( صورة المطابقة للواقع التي تعقلتها و أدركتها ) هي التي تُسمّى ( بالتصديق ) ، لأنّها إدراكٌ يستلزم تصديق النفس و إذعانها ، تسميةً للشيء باسم لازمه الذي لا ينفكّ عنه { .
ــــــــــــــــــ0
الشرح :
( إذا رسمت مثلثاً تحدث في ذهنك صورةً له ) : أي لذلك المثلث ، باعتبار انطباع صورُ الأشياء في الذهن و العقل فتحدُثُ صورة .
( هي علمُك بهذا المثلث ، و يُسمّى هذا العلم " بالتصوّر " . و هو تصوّر مجرّد لا يستتبعُ جزماً و اعتقاداً ) : لا نفياً و لا إثباتاً .
( و إذا تنبّهت إلى زوايا المثلث تحدث لها أيضاً صورة في ذهنك ) : أي تحدث لتلك الزوايا صورة أيضاً في ذهنك .
( و هي أيضاً من التصور المجرّد ) : من الحكم ، أي الذي لا يستتبعُ حكماً .
( و إذا رسمت خطاً أُفقياً و فوقه خطاً عمودياً مقاطعاً له تحدث زاويتان قائمتان ، فتنتقش صورة الخطين و الزاويتين في ذهنك . و هي من التصور المجرّد أيضاً) : أي خط أُفقي و في وسطه خط عمودي فتحدث زاويتين قائمتين و هذه الصورة الثالثة من الأمثلة أياً هي من التصور المجرّد الذي لا يستبع الحكم .
( و إذا أردت أن تقارن بين القائمتين ) : يعني بين الزاويتين القائمتين الموجودة على طرفي الخط العمودي .
( و مجموع زوايا المثلث ) : الثلاث .
( فتسأل في نفسك هل هما متساويان ؟ ) : أو غير متساويين ؟ فهنا إن قلت هما متساويان فمعنى ذلك أنّك جزمت و أذعنت بوقوع هذا الشيء ، و إن قلت غير متساويين فتكون قد جزمت بعدم وقوع هذه النسبة .
و تشكّ في تساويهما ، تحدث عندك صورة لنسبة التساوي بينهما . و هي من التصور المجرّد أيضاً . فإذا برهنت على تساويهما تحصل لك حالة جديدة مغايرة للحالات السابقة ) : أي للتصورات السابقة ، مجموعة تصورات و لكن لم يكن فيها أيُّ شيء ، بمعنى أي واحد من تلك التصورات لا جزمٌ فيها بوقوع شيء و لا جزمٌ بنفي وقوع شيء .
( و هي إدراكُك لمطابقة النسبة للواقع المستلزم لحكم النفس و إذعانها و تصديقها بالمطابقة ) : كما قلتُ لكم في " زيدٌ قائم " فالمثال فيه جدُّ أوضح ؛ " زيدٌ " موضوع ، تصورٌ ، " قائمٌ " محمول ، تصورٌ آخر ، نسبةٌ بين الموضوع و المحمول ، تصورٌ ثالث ، و لكن أنّ النسبةَ واقعةٌ في الخارج فهذا ليس تصوّر و إنّما هو تصورٌ يستتبع جزماً و حكماً و إذعاناً من النفس .
( و هذه الحالة أي " صورةُ المطابقة للواقع التي تعقلتها و أدركتها " هي التي تُسمّى " بالتصديق " ) : إذن ، ما هو التصديق ؟ قل هو : تصورٌ معه إذعان و معه حكم .
هنا فقط سؤال ، و هو : عندما نقول : " تصورٌ معه حكم " يعني أنّ التصديق مركّب من جزئين " تصور ٍ و حكم " أو هو واحد ؟ نريد أن نقول هو واحد و ليس اثنين ، لأنه لو قلنا اثنين يلزم أن يكون مركّب من جزئين ، من تصورٍ و من حكم ، و القسمةُ قاطعةٌ للشركة ـ لا أدري إن كنتم درستم ذلك أم لا ـ و لكن لا بأس بتوضح معنى ذلك .
معنى أن القسمة قاطعةٌ للشركة :
ـــــــــــــ
أنت عندما تقول : " العلمُ إمّا تصورٌ و إمّا تصديق " فمعنى ذلك أنّه لا التصور هو التصديق و لا التصديق هو التصور ، أنت ـ جنابك ـ عندما تقوا : " الكلمةُ إما اسمٌ و إما فعلٌ و إما حرف " فما معنى هذا التقسيم ؟ نحن قلنا القسمة قاطعة للشركة ، فيكون معنى ذلك أن الحرف لا يُمكن أن يكون فعلاً ، و إلاّ لو أمكن أن يكون فعلاً لما كانت القسمة صحيحة ، و أنت بعد ذلك تستطيع أن تقول : أنّ الحرفَ غير الفعل و غير الإسم و أنّ الفعل غيرهما ، و أنّ الإسم غيرهما .
فهنا أيضاً عندما نقول " العلمُ إما تصورٌ و إما تصديقٌ " يعني ذلك أنّ التصور غير التصديق و أنّ التصديق غير التصوّر ، فإذا عرّفنا التصديق بأنّه " تصوّرٌ مع حكم " فإنه يلزم من هذا أن يكونَ أحدُ القسمين جزءاً في القسم الآخر و هو محالٌ ، إذن ، بعد هذا لا يُعقل أن يكون التصديق مركبٌ من جزئين ، من تصورٍ و من حكم ، بل هو شيءٌ واحد . أي أنّ " التصوّر" هنا هو " الحكم " ، نضرب مثال آخر :
جنابك تقول : " الإنسان هو الحيوان مع الناطق " فهل معنى ذلك أن الإنسان مركب من جزئين الحيوان في جزء و الناطق في جزء ، أم أنّ الإنسان شيءٌ واحد هو " الحيوان الناطق " ؟ نعم معنى ذلك أن الإنسان شيءٌ واحد هو " الحيوان الناطق " فهنا أيضاً عندما نقول أن التصديق هو " التصور مع الحكم " لا نريد أن نقول التصور جزءٌ و الحكم جزءٌ آخر ، بل هما شيءٌ واحد ، أي نريد أن نقول : هذا التصور هو الحكم ؛ و عندنا تصوّرٌ ليس بحكم .
إذن تبيّن بأنّ العلم كلُّه تصور و لكن تصور و ليس بحكم و تصورٌ هو حكم ، إذن كلاهما تصور ، و لكن حتّى نميّز بينهما سميّنا أحدهما " تصور " و سمينا الآخر " تصديق " و إلاّ في واقع الأمر كلاهما تصوّر ، و لكن تصورٌ هو حكم و تصور ليس بحكم .
فلهذا ـ هنا ـ التعبير الوارد من المصنّف بأنّه " تصورٌ يستتبع ... " لا يتبادر إلى أذاهنكم بأنّ التصوّر شيءٌ و الحكم شيءٌ آخر ، فهما ليسا اثنين بل هما شيءٌ واحد .
( لأنها إدراكٌ ) : أي التصديق إدراكٌ .
( يستلزم تصديق النفس و إذعانها ) : أي و إذعان النفس .
( تسمية للشيء باسم لازمه الذي لا ينفكُّ عنه ) : الآن هو في معرض الإعتذار أنّ التصور و الحكم و الإذعان لازمٌ و ملزوم ، و لكن بعبارةٍ أدقّ نستطيع أن نجعل أحدهما عينِ الآخر ، نعم بحسب تحليل العقل أنت تميّز فتقول : تصوّر و حكم ، و إلاّ بحسب الوجود الخارجيّ هما شيءٌ واحد لا اثنين ، تصوّرٌ هو حكم و تصورٌ ليس بحكم .
النصّ :
} إذن : إدراكُ زوايا المثلث ، و إدراكُ الزاويتين القائمتين ، و إدراكُ نسبة التساوي بينهما كلها ( تصوّرات مجرّدة ) لا يتبعها حكمٌ و تصديق . أمّا إدراكُ أنّ هذا التساوي صحيح واقع مطابق للحقيقة في نفس الأمر فهو ( تصديق ) .
و كذلك إذا أدركت أنّ النسبة في الخبر غير مطابقة للواقع ، فهذا الإدراك ( تصديق ) {.
ـــــــــــــــــــ0
الشرح :
( إذن : إدراكُ زوايا المثلث ، و إدراكُ الزاويتين القائمتين ، و إدراكُ نسبة التساوي بينهما كلها ( تصوّرات مجرّدة ) : فمعنى ( تصورات مجرّدة ) أي لا حكم فيها .
( لا يتبعها حكمٌ و تصديق ) : هذه الجملة فقط للمتخصّصين ، فأنا ـ كما ترون ـ بعض النكات أذكرها و لم أشرحها و ذلك حتّى أنّ المتخصّصين عندما يستمعون إلى الكاسيت أو إذا كان بعضهم موجود في الدرس أيضاً يستفيدون من أحد المطالب حتى لا نكون نحن ـ فقط ـ نتكلّم للمبتدئين في المسألة ، فنقول : الحكم و التصديق ليسا من المترادفين ، الحكم له معنىً و التصديق له معنىً ثانٍ ، و لكن الآن ـ المصنّف ـ يستعملهما بعنوان أنّهما مترادفان .
( أمّا إدراكُ أنّ هذا التساوي صحيح واقع مطابق في نفس الأمر ) : و في الواقع .
( فهو تصديق ) : فهو التصديق .
( و كذلك إذا أدركت أنّ النسبة في الخبر غير مطابقة للواقع ) : إذن عندما نقول " تصديق " ليس شرط أنها ـ أي النسبة ـ تكون ثبوتيّة " إثبات " ، بل قد تكون النسبة سلبيّة " نفي " ، و بعبارة أُخرى : إمّا أن تُدرِكَ أنّ النسبة بين " زيد " و " القيام " متحقّقة و إمّا أن تُدركَ أن النسبة بين " زيد " و " القيام " غيرُ متحقّقة ؛ فأيضاً هذا إدراٌ بالنسبة .
النصّ :
} تنبيهٌ : إذا لاحظت ما مضى يظهر لك أنّ التصوّر و الإدراك و العلم كلّها ألفاظٌ لمعنىً واحد ، و هو : حضور صور الأشياء عند العقل . فالتصديق أيضاً تصوّرٌ و لكنه تصوّرٌ يستتبع الحكم و قناعة النفس و تصديقها . و إنّما لأجل التمييز بين التصوّر المجرّد أي غير المستتبع للحكم ، و بين التصوّر المستتبع له ، سمّي الأول ( تصوراً ) ، لأنه تصوُرٌ محض ساذج مجرّد ، فيستحقّ إطلاق لفظ ( التصوّر ) عليه مجرّداً من كلّ قيد ، و سمّي الثاني ( تصديقاً ) ، لأنه يستتبع الحكم و التصديق ، كما قلنا تسميةً للشيء باسم لازمه { .
ـــــــــــــــــــــ0
الشرح :
( تنبيهٌ : إذا لاحظت ما مضى يظهر لك أنّ التصوّر و الإدراك و العلم ) : أي العلم الحصولي ، لأنه بعض المحشين يُشكِل على المصنّف يقول : بأنه لماذا قال ( و العلم ) فالعلم لا يُرادفُ الإدراك و التصوّر ؟ الجواب : نقول : ليس المراد من العلم هنا مطلقُ العلم حتّى الحضوري و إنما المراد من العلم هنا خصوص الحضوري فقط .
( كلها ألفاظٌ لمعنىً واحد ، و هو : حضورُ صور الأشياء عند العقل ) .
( فالتصديقُ أيضاً تصوّرٌ و لكنّه تصوّرٌ ) : و لكن أيّ نوع من أنواع التصوّر ؟ قال :
( يستتبعُ الحكم ) : أي تصورٌ فيه حكمٌ ، أمّا التصوّر المجرّد ما هو ؟ هو التصوّر الذي لا يوجدُ فيه حكمٌ ، إذن ، تبيّن أن العلم نستطيع أن نقسمه فنقول : هو تصوّرٌ لا يوجدُ فيه حكم ، و تصوّرٌ هو حكم ؛ إذن ، لماذا ـ شيخنا ـ سميّت هذا الثالث تصديق ؟ يقول :
لأجل التمييز، أي حتّى نميّز فلا يقع اختلاط ، لأنّه كلّه يُطلق عليه تصور فقد يختلطُ على المبتديء ، و لأجل أن لا يختلط على المبتديء ميّزنا بينهم .
( و قناعة النفس و تصديقها ) : أي و تصديق النفس ، إذاُ ، لماذا سميت أحدهما تصور و الآخر تصديق ؟ قال :
( و إنّما لأجل التمييز بين التصوّر المجرّد أي غير المستتبع للحكم و بين التصوّر المستتبع للحكم سمي الأولُ تصوراً ... و سمّي الثاني تصديقاً ) : و إلاّ كلاهما هو تصوّر .
( لأنه تصورٌ محض ساذِج ) : ساذِج ، يعني بمعنى ساده ، و معنى " ساده " يعني هو فقط لا شيء آخر معه ، فأنت عندما تقول : هذا القماش قماش ساده ، فمعنى " ساده " يعني ليس فيه ورود أو نقوش و ماشابه ، فهنا أيضاً عندما تقول : تصورٌ ساذِج ، يعني " ساده " أي ليس معه شيء آخر .
( مجرّد ) : أي لا يستتبع حكماً ، و ليس أنه مجرّد عن المادّة .
فيستحق إطلاق لفظ التصور عليه مجرداً من كل قيد ، و سمي الثاني تصديقاً ، لأنه ) : أي لأن ذلك التصور .
( يستتبع الحكم و التصديق ،كما قلنا تسميةً للشيء باسم لازمه ) : هنا أيضاً كرر المصنف مرة أُخرى فقال : أنّ التصديقَ و أنّ الحكمَ لازمٌ للتصور ، و لكنه بنظرةٍ أعمق يتضح بأنّ التصديق أو الحكم هو غير لازم للتصور بل هو عين التصور ، كما أنّ الناطقَ عينُ الحيوان لا أنّ الناطقَ لازمٌ للحيوان بل أحدهما عينُ الآخر .
النصّ :
} أمّا إذا قيل : ( التصوّر المطلق ) ، فإنما يُراد به ما يساوق العلم و الإدراك . فيعمّ كلا التصورين : التصور المجرّد ، و التصوّر المستتبع للحكم ( التصديق ) ، { .
ـــــــــــــــــــ0
الشرح :
( أمّا إذا قيل : التصور المطلق ) : من هنا يقول ـ هذا من باب الإصطلاح ـ بعض الأحيان يعبّرون : " التصور المطلق " ، فهم عندما يقيّدون التصور بـ " المطلق " فإنما يريدون القسمين معاً ، يعني يريدون ما يشمل التصور المجرّد عن الحكم و التصور المستتبع للحكم .
( فإنما يراد به ما يساوق العلم و الإدراك . فيعمّ كلا التصورين ... ) : أعمُّ من أن يستتبع حكم أو لا يستتبع .
أمّا هنا فيأتي هذا السؤال ، و هو : أنّ التصور بم يتعلّق و أنّ التصديق بم يتعلّق ؟ يعني ما هي الأُمور التي يتعلّقُ بها التصور ، و ما هي الأُمور التي يتعلّق بها التصديق ؟ بيانه سيأتي و الحمد لله ربّ العالمين .
المدير العام- Admin
-
عدد المساهمات : 501
نقاط : 2147483647
عضو مميز : 1
تاريخ التسجيل : 09/02/2010
العمر : 44
مواضيع مماثلة
» دروس في علم المنطق ـ المحاضرة الخامسة
» دروس في علم المنطق ـ المحاضرة السابعة
» دروس في علم المنطق ـ المحاضرة الثانية
» دروس في علم المنطق ـ المحاضرة السابعة
» دروس في علم المنطق ـ المحاضرة الثانية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء يوليو 08, 2014 6:16 pm من طرف السيد عبد الحسين الاعرجي
» زواج المتعة
الأربعاء فبراير 09, 2011 11:07 am من طرف حسين
» الى من يهمه الامر
الخميس نوفمبر 18, 2010 2:26 am من طرف احمد علي حسين العلي
» جبل يضع البيض في الصين
الأربعاء نوفمبر 10, 2010 9:31 am من طرف زائر
» لى من يهمه الامر
الأربعاء نوفمبر 03, 2010 9:30 am من طرف سمير محمود الطائي
» زرقاء اليما مه
الأربعاء سبتمبر 29, 2010 5:17 am من طرف سمير محمود الطائي
» الأخت المؤ منه ومشا كل العصر
الثلاثاء سبتمبر 28, 2010 1:59 am من طرف سمير محمود الطائي
» أعجوبة صورة الضحى
الثلاثاء سبتمبر 28, 2010 1:48 am من طرف سمير محمود الطائي
» با لحسين معا دلتي موزونه
الإثنين سبتمبر 27, 2010 6:30 pm من طرف سمير محمود الطائي