مواضيع مماثلة
لائحة المساحات الإعلانية
لإضافة إعلاناتكم الرجاء
مراسلتنا على البريد الإلكتروني التالي
بحـث
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 198 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 198 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحثلا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 242 بتاريخ الأحد ديسمبر 01, 2013 9:22 am
احصائيات
هذا المنتدى يتوفر على 57 عُضو.آخر عُضو مُسجل هو yaasaay فمرحباً به.
أعضاؤنا قدموا 563 مساهمة في هذا المنتدى في 551 موضوع
تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
المدير العام | ||||
عاشقة الزهراء | ||||
سمير محمود الطائي | ||||
قدوتي زينب ع | ||||
الغضب الصدري | ||||
Aorn | ||||
يا صاحب الزمان | ||||
حسين | ||||
احمد علي حسين العلي | ||||
السيد عبد الحسين الاعرجي |
دروس في علم المنطق ـ المحاضرة الثانية
صفحة 1 من اصل 1
دروس في علم المنطق ـ المحاضرة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين
عن الإمام الصّادق ( عليه أفضل الصّلاة و السّلام ) قال : إنّ الله ـ عزّ و جلّ ـ يقول لملائكته عند انصراف أهل مجالس الذِّكر و العلم إلى منازلهم : اكتبوا ثواب ما شاهدتموه من أعمالهم فيكتبون لكلّ واحدٍ ثواب عمله و يتركون بعض من حضر معهم فلا يكتبونه ، فيقولُ الله ـ عزّ و جلّ ـ : ما لكم لم تكتبوا فلاناً ، أليس كان معهم و قد شهِدَهم ، فيقولون : يا ربّ إنّه لم يَشْرَك معهم بحرْفٍ و لا تكلّم معهم بكلمةً ، فيقول الجليلُ جلّ جلاله : أليس كان جليسهُم ، فيقولون : بلى يا ربّ ، فيقول : اكتبوه معهم ؛ إنّهم قومٌ لا يشقى بهم جليسهُم ، فيكتبونه معهم ، فيقول تعالى : اكتبوا له ثواباً مثل ثوابَ أحدهم .
انتهينا في عبارة المصنّف ( رحمةُ الله تعالى عليه ) إلى قوله : ( و لو قلتم أنّ الناس يدرسون المنطق و يخطأون في تفكيرهم فلا نفع فيه ، قلنا لهم : ... ) .
بينّا فيما سبق أنّ فائدة المنطق ما هي ؟ حيثُ بينّا أنّ فائدة المنطق هي تصحيح الفكر و ترتيب المعلومات للوصول إلى أمرٍ مجهول ، تنظيمُ ما يعلمه الإنسان للوصول و للكشف عن أمرٍ مجهول بالنّحو الذي شرحناه مفصّلاً في الدرس السابق .
ورد هنا إشكال ، بأنّه : لو كانت فائدةُ المنطق هذه ـ أي تصحيح الفكر و تنظيمه ... ـ فلماذا نجدُ أنّ كلّ الذين يعلمون المنطق لا تكونُ أفكارهم صحيحة ، ما السببُ في ذلك ؟
قلنا : هناك جوابٌ نقضي و حلّيّ لهذا الإشكال ، فأمّا الجواب النقضي لذلك فهو : بأنّه نجد أنّ كلّ من تعلّم علماً ليس معناه أنّه لا يُخطِيءُ فيه ، فكم من تعلّم علم النّحو و لكنّه يُخطِيءُ في اللسان ، و كم من تعلّم علم العروض و لكنّه يُخطِيءُ في أوزان الشعر .
هذا الجواب النقضي ، و لكن ـ مراراً ـ ذكرنا بأنّ النقض لا يحِلُّ الإشكال و إنّما يزيدُ الإشكال إشكالاً ، كيف ؟ نقول : بأنّه يرِدُ نفس هذا النقض في علم العروض و يرد في علم النحو ، فإذن هذا ليس جواباً عن الإشكال ، و إنّما الجوابُ عن الإشكال هو : أنّ المنطق لا يُخطِيء و لكنّ المنطقيّ قد لا يستعملُ هذا العلم بدقيقه كما هو مطلوبٌ على ما ينبغي أن يستعمله ، فلهذا قد يُخطِيء و إلاّ لو راعى كلّ القواعد المنصوصِ عليها هيئةً و مادّةً فإنّه لا يُخطِأ و لا في مرّةٍ واحدة ، نعم ، لو لم يُراعي ذلك في بعض الموارد يُخطِأ و سببُ خطأه عدمُ المراعاة الصحيحة للموادّ و للهيئات و للصور ، فلهذا قال : ( و لو قلتم أنّ الناس يدرسون المنطق و يُخطِأون في تفكيرهم و عليه فلا نفع فيه ، قلنا لكم : إنّ الناس يدرسون علمي النّحو و الصرف فيُخطِأون في نُطقهم ) ، هذا هو الجواب النقضي ؛ و لكن ليس الجواب التامّ ، إنّما الجواب التامّ هذا الحلّ ، قال : ( و ليس ذلك إلاّ لأنّ الدارس للعلم لا يحَصَلُ على ملكة العلم ) ، يعني أنّ القواعد لا تكون له بنحو الملكة الراسخة التي لا يشتبهُ في تطبيقها ، ( أو لا يُراعي قواعدَ العلم عند الحاجة أو يُخطِأ في تطبيقها ) أي تلك القواعد ( فيشِذُّ عن الصّواب ) و يقعُ في الخطأ .
هذا فيما يرتبط بفائدة و الغرض من علم المنطق .
أمّا ما هو تعريفُهُ ؟ فيقول : تعريفه اتّضح ممّا بيّنّاه في الفائدة و الغرض من علم المنطق . قال :
النصّ :
} تعريف علم المنطق : و لذلك عرّفوا علم المنطق : بأنّه ( آلةٌ قانونيّة تعصمُ مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر ) . فانظر إلى كلمة مراعاتها ، و اعرف السرّ فيها كما قَدِمْناهُ ، فليس كلّ من تعلّم المنطق عصم عن الخطأ في الفكر ، كما أنّه ليس كلّ من تعلّم النّحو عصم عن الخطأ في اللسان ، بل لا بدّ من مراعاة القواعد و ملاحظتها عند الحاجة ، ليعصم ذهنه أو لسانه { .
ــــــــــــــــــــ0
( آلةٌ ) : إنّما قال آلة ، باعتبار أنّ المصنّف ـ بعد ذلك ـ سيُشير إلى أنّ علم المنطق مرتبطٌ بباقي العلوم ، يخدِمُ باقي العلوم ، و إلاّ لو لم تكن هناك علومٌ ـ في الدنيا ـ مجهولة ، و نريد الكشفَ عن المجهولِ فيها لما احتجنا إلى علم المنطق ، إذن ، علمُ المنطق هو علمٌ لخدمة العلوم الأُخرى ، و إلاّ لو لم يكن هناك علوم أُخرى نريد أن نكشف فيها عن مجهولات فإنّنا لا نحتاجُ إلى علم المنطق . و بعبارةٍ أُخرى : لو لم يكن عند الإنسان مجهولٌ من المجهولات فإنّه لا يحتاجُ إلى علم المنطق ، فلهذا نحنُ نقولُ : أنّ في الملائكة ، في الموجودات التي لا تجهَلُ شيئاً لا يوجدُ هناك علمُ المنطق ! و السبب : لأنّ علم المنطق إنّما يوجدُ في المورد الذي يوجد فيه مجهولٌ و نريدُ الكشفَ عن ذلك المجهول لجعله معلوماً .
إذن ، هذا العلم إنّما نحتاجُ إليه في مورد وجود مجهولات عندنا ، فهو آلةٌ لها ، أمّا إذا لم تكن عندنا مجهولات فلا نحتاج إلى ذلك العلم ، بخلاف جملة من العلوم كعلم التوحيد و معارف التوحيد فإنّ علم التوحيد نحتاج إليه مطلقاً و ليس خادماً و مرتبطاً بعلمٍ آخر بل هو مقصودٌ لذاته ، و من هنا نجد أنّ العلوم تُقسّمُ قسمين : علومٌ مقصودةٌ لغيرها ، و علومٌ مقصودةٌ لذاتها ، و المنطق من العلوم المقصودة لغيره لا لذاته ؛ فلهذا قال : ( آلةٌ ) .
( قانونيّةٌ ) : إنّما عبّر عن هذه الآلة بأنّها ( قانونيّة ) باعتبار أنّها قانونٌ عامّ ، تشكّلُ كلّ حكمٍ و مسألة من أحكام و مسائل هذا العلم قانوناً كليّاً و قاعدةً كليّة تحتهاجزئيّات و مصاديق كثيرة جدّاً .
إذن ، هذه الآلة ليست جزئيّة ، و إنّما هي آلةٌ كليّة تحتها مصاديق كثيرة .
( تعصمُ ـ مراعاتها ـ الذهن عن الخطأ في الفكر ) : و لكن متى تعصم الذهنَ عن الخطأ في الفكر ؟ هل تعصمه مطلقاً أو تعصمُ الذهنَ عن الخطأ في الفكر عند مراعاة تلك القوانين و تلك القواعد التي دونّت في ذلك العلم ؟ قال : تعصم ـ مراعاتها ـ ، أي أنّ تطبيق تلك القواعد بنحوٍ صحيح هو الذي يعصم الذهنَ عن الخطأ في الفكر ، أي عن الخطأ في عمليّة التفكير ، و نحن قلنا أنّ المراد من الفكر ـ كما عرّفناه فيما سبق ـ : الوصولُ من معلومٍ تصوّريّ إلى مجهولٍ تصوّريّ ، و من معلومٍ تصديقيّ إلى مجهولٍ تصديقيّ ، و بيانه سيأتي أنّه ما هو المراد من التصوّر و ما هو المرادُ من التصديق و ذلك عندما نُقسّمُ العلمَ إلى تصديقٍ و تصوّر .
و من هنا قال :
( فانظر إلى كلمة مراعاتها ) : التي وردت في التعريف .
( و اعرف السرّ فيها كما قدِمناه ) : أي في كلمة مراعاتها .
( فليس كلّ من تعلّم المنطق عُصِمَ عن الخطأ في الفكر ) : و في عمليّة التفكير .
( كما أنّه ليس كلّ من تعلّم النحو عُصِمَ عن الخطأ في اللسان ، بل لا بدّ من مراعاة القواعد و ملاحظتها عند الحاجة ، ليعصم ذهنه أو لسانه ) : أي ليعصم ذهن المنطقيّ في التفكير ، أو لسان المنطقيّ في النُّطق . و أمّا لماذا قال : ( أنّ المنطق آلة ) ؟ فجوابه :
النصّ :
} المنطق آلة
و انظر إلى كلمة ( آلة ) في التعريف و تأمّل معناها ، فتعرف أنّ المنطق إنّما هو من قسم العلوم الآليّة التي تُستخدم لحصول غاية ، هي غير معرفة مسائل العلم ، فهو يتكفّل ببيان الطرق العامّة الصحيحة التي يُتوصّل بها الفكر إلى الحقائق المجهولة ، كما يبحث ( علم الجبر ) عن طُرُق حلّ المعادلات التي بها يتوصّل الرياضيّ إلى المجهولات الحسابيّة { .
ـــــــــــــــــ0
الشرح :
( و انظر إلى كلمة ( آلة ) في التعريف و تأمّل معناها ، فتعرف أنّ المنطق إنّما هو من قسم العلوم الآليّة ) : أي من العلوم المقصودة لغيرها لا المقصودة لذاتها ، و هذا من قبيل " علم الأُصول " فالأُخوة يعلمون : أنّنا إذا لم يكن عندنا استدلال فقهيّ فهل نحتاجُ إلى علم الأُصول أو لا نحتاجُ إلى علم الأُصول ؟ و الجواب على ذلك : أنّه من الواضح أنّه إنّما وُجِدَ علمُ الأُصول لتيسير بيان كيفيّة الاستدلال في علم الفقه ، و ما لم يكن عندنا علمُ الفقه فمن الواضح أنّنا لا نحتاجُ إلى علم الأُصول أيضاً ، و من هنا قالوا : بأنّ علم الأُصول أيضاً من العلوم الآليّة و ليست من العلوم المقصودة لذاتها .
( التي تُستخدمُ لحصول غايةٍ ) : و تلك الغاية :
( غير معرفة نفس مسائل العلم ) : إذا كانت من العلوم المقصودة لذاتها فالعلمُ إنّما يُنشأ لمعرفة مسائل ذلك العلم ، يعني " علمُ التوحيد " يُنشأ حتّى نعرف أنّ الله واحد ، و أنّ الله عالمٌ ، و أنّه قادرٌ ، و نحو ذلك ، فإذن ، إنّ العلم الآليّ ليست الغايةُ فيه معرفةُ مسائل نفس العلم ، و إنّما العلمُ الغائيّ الغاية منه ، أي علمُ المنطق الغايةُ منه هو معرفةُ غيره من العلوم بواسطته ، بخلاف العلوم غير الآليّة فإنّ المقصود فيها و الغايةُ منها هو معرفةُ مسائل نفس ذلك العلم .
( فهو ) : أي العلمُ الغائيّ .
( يتكفّلُ ببيان الطُرُق العامّة الصحيحة ) : طبعاً عندما قال ( الطرق ) فهي تشملُ أيَّ طريقٍ سواءٌ كان في العلوم الجزئيّة أو العلوم الكليّة ، و لكن عندما قال : ( العامّة ) أراد تلك الطُرُق التي تشتركُ فيها جميعُ العلوم سواءٌكان علمُ التوحيد و سواءٌ كان علم الأُصول أو علم الفقه أو الفيزياء أو الرياضيّات ، جميعاً تحتاجُ إلى هذه الطُرُق العامّة ، بخلافه هناك بعض القواعد المرتبطة ببعض العلوم دون البعض الآخر ، فأنتم إذا جئتم إلى " علم الفقه " تجدون أنّ فيه قواعد عامّة ـ أيضاً ـ و هذه القواعد العامّة هي " علمُ الأُصول " التي عبّر السيّد الشهيد عنها بـ " العناصر المشتركة في عمليّة الاستدلال الفقهي " فهذه أيضاً قواعد عامّة و لكن قواعد عامّة ليس لكلّ العلوم و إنّما من الواضح أنّها قواعد عامّة في علم الفقه فقط ، و لكنّ المنطق هو قواعد عامّة لكلّ العلوم ؛ و من هنا قيّد هذه القواعد أو الطُرُق بـ " العامّة " يعني التي يُستفاد من تلك الطرق في جميع العلوم بلا استثناء .
( التي يتوصّل بها الفكر إلى الحقائق المجهولة ) : سواءٌ كانت تلك الحقائق المجهولة " تصوّرٌ " أو كانت " تصديق " .
( كما يبحث ( علم الجبر ) عن طرق حلّ المعادلات التي بها يتوصّل الرياضيّ إلى المجهولات الحسابيّة ) : هذا التنظير في قوله ( كما يبحثُ ... ) من قبيل ما نظّرنا لكم علمُ الأُصول و علم الفقه ، فعلمُ الجبر يُشكِّلُ القواعد العامّة للرياضيّات ، قواعد عامّة في خصوص الرياضيّات ، و ليس لكلّ العلوم .
فإذن ، هذا تمثيلٌ ، و لكنّه تمثيلٌ بالأخفى ، لماذا ؟ لأنّه نحن لا نعرف أنّ الجبر ما هو حتّى نعرف نسبة الجبر إلى الرياضيّات ، فلو مثّل ـ أي الشيخ المظفّر رحمه الله تعالى ـ بمثال الأُصول و الفقه لكان أوضح عند الطالب ، لأنّ الطالب يعرف نسبة علم الأُصول إلى نسبة الفقه ، فلهذا نرى أنّ السيّد الصّدر ـ رحمةُ الله تعالى عليه ـ قال في الحلقة الأُولى : " أنّ نسبة علم الأُصول إلى علم الفقه هي نسبةُ المنطق إلى جميع العلوم ".
فإذن ، هنا قواعد عامّة ، علمُ الجبر قواعد عامّة و لكن ليس قواعد عامّة لكلّ العلوم و إنّما قواعد عامّة للرياضيّات فقط كما أنّ الأُصول قواعد عامّة و لكن ليست قواعد عامّة لكلّ العلوم بل هو قواعد عامّة لخصوص الفقه ، و أمّا المنطق فهو قواعد عامّة لكلّ العلوم .
النصّ :
} و ببيانٍ أوضح : علم المنطق يُعلّمُك القواعد العامّة للتفكير الصحيح حتّى ينتقل ذهنُك على الأفكار الصحيحة في جميع العلوم ، فيُعلّمُك على أيةّ هيئة و ترتيب فكري تنتقل من الصور الحاضرة في ذهنك إلى الأُمور الغائبة عنك ـ و لذا سمّوا هذا العلم ( الميزان ) و ( المعيار ) من الوزن و العيار ، و وسموه بأنّه ( خادمُ العلوم ) حتّى علم الجبر الذي شبّهنا هذا العلم به ، يرتكز حلّ مسائله و قضاياه عليه .
فلا بدّ لطالب هذا العلم من استعمال التمرينات لهذه الأداة و إجراء عمليّاتها في أثناء الدراسة ، شأن العلوم الرياضيّة و الطبيعيّة { .
ــــــــــــــــــــ0
الشرح :
( و ببيانٍ أوضح ) : من حيث أنّه مثّل له ـ أي لعلم المنطق ـ بأمرٍ أخفى فالآن يقول ( و ببيانٍ أوضح ) .
( علم المنطق يُعلّمُك القواعد العامّة للتفكير الصحيح حتّى ينتقل ذهنُك إلى الأفكار الصحيحة في جميع العلوم ) : دون استثناء .
( فيُعلّمك على أيّة هيئة و ترتيب فكريّ تنتقل من الصور الحاضرة في ذهنك إلى الأُمور الغائبة عنك ) : هنا يرى المصنّف أنّ المنطق يتناول و يُعلّمُك فقط الهيئة ـ الصورة ـ دون المادّة ، أي يُعلّمك الهيئة و أمّا أنّ المواد ، موادّ الهيئة و موادّ الاستدلال ، فيقول : أنّ المنطق لا يتعلّق بها و لا ينالُها ـ أي هذه الموادّ ـ ، و لكن هذا الكلام ـ أنّ المنطق يتعلّق بالهيئة دون المادّة ـ غيرُ تامِّ من المصنّف ، يعني أنّ المنطق كما يتبنّى بيان الهيئة و الصورة كذلك يتبنّى بيان المادّة أيضاً ، فالمنطق كما هو صوري أيضاً هو مادّيّ ، و هذا ـ أي تعلّق المنطق بالهيئة و المادّة معاً ـ ما يُصرّحُ به المصنّف في موردين من نفس هذا الكتاب ـ المنطق ـ يعني في صفحة ( 206 ) و في صفحة ( 279 ) من هذا الكتاب المنطق ـ على اختلاف قد يكون في الصفحات لاختلاف الطبعات ـ نجد بأنّ الماتن ـ يعني الشيخ المظفّر رحمةُ الله تعالى عليه ـ يُصرّحُ هناك يقول : تقدّم أنّ للقياس مادّة و صورة فبيّنّا الصورة و الآن يريدُ أن يدخُلَ في الباب السادس " الصناعات الخمس " إلى بيان المادّة ، و من الواضح أنّ القياس مادّةً و صورةً داخلٌ في علم المنطق .
إذن ، ما ذكره هنا من أنّ المنطق ـ فقط ـ يتبنّى الترتيب ـ المادّة ـ و الهيئة غيرُ تامٍّ ، و كذلك ما يذكرُه الشيخ الرئيس ـ رحمةُ الله تعالى عليه ـ في كتاب " النجاة " الصفحة ( 4 ) يقول : ( فالمنطق هو الصناعةُ النظريّة التي تُعرِّفُ من أيِّ الصور و الموادّ يكونُ الحدِّ الصحيح ) لا فقط الصور ما هي ؟ و إنّما الصورُ و الموادّ معاً .
إذن ، ما ذكره المصنّف هنا من أنّ المنطق يُعلّمك على أيِّ هيئةٍ و ترتيب فكري تنتقلُ من الصور الحاضرة في ذهنك إلى الأُمور الغائبة عنك ، هذا ليس تامّاً ، و طبعاً لا بدّ أن يُعلَم أنّ الشيخ المطهّري ـ رحمةُ الله تعالى عليه ـ أيضاً يذهبُ إلى أنّ علم المنطق يختصُّ ببيان الصورة لا الصورة و المادّة ، و لكن شيخنا الأُستاذ الشيخ الجوادي ـ حفظه الله ـ يقول : لا ، هذا الكلامُ غيرُ تامٍّ ، و إنّما المنطق يتعرّضُ للمادّة و الصورة معاً .
( و لذا سمَّوا هذا العلم بالميزان و المعيار من الوزن و العيار ) : هذا التعبير عن العلم بالميزان يشمُل المادّة و الصورة ، كيف ؟ الجواب : لأنّه نحتاجُ ميزان في الموادّ و نحتاج ميزان في الهيئات .
( و سمَّوه بأنّه خادمُ العلوم ) : لأنّه قلنا بأنّ المنطق يُعطي الطرائق أو الطرُق العامّة لجميع العلوم .
( حتّى علم الجبر الذي شبّهنا هذا العلم به ) : و حتّى علم الأُصول الذي شبّهنا هذا العلم به ، علم الأُصول ـ أيضاً ـ لكي تُحقّق مسائلُه يحتاج إلى علم المنطق ,
( يرتكزُ حلّ مسائله و قضاياه عليه ) : أي يرتكزُ حلّ مسائل الجبر و قضايا الجبر على علم المنطق ، و على هذا الأساس :
( لا بدّ لطالب هذا العلم من استعمال التمرينات لهذه الأداة و إجراء عمليّتها في أثناء الدراسة ، شأن العلوم الرياضيّة و الطبيعيّة ) : التي تحتاجُ إلى ممارسةٍ و تمرين حتّى تكون هذه المسائل مَلَكَة عند الإنسان ، يعني لا نكتفي بأن يتعرّف الإنسان على هذه القواعد و ينساها بل لا بدّ أن تكونَ هذه القواعد بمنزلة الملكة ، من قبيل سورة ( قل هو الله أحد ) فإنّك لا تنسىاها و عدم نسيانك لها إنّما لكون هذه السورة صارت عندك ملكة و حتّى لو تركت هذه السورة المباركة عشر سنوات ففي النتيجة أنّك تستذكرُها متى ما أردت بخلاف ما لو تحفظ بيتاً من الشعر في هذا اليوم فإنّك بعد مضيّ ثلاثة أيّام تنسى هذا البيت ، و السبب : لأنّ ذلك الحفظ لم يكن ملكةً ، كذلك نحن نحتاج في هذه العلوم لكي نستفيدَ منها أن تكونَ ملكة ، و إلاّ إذا لم تكن ملكة لا يستطيع الطالب أن يتعلّم و يستفيدَ منها ، لأنّه لا يستطيع في كلّ مسألة يقرؤها في الفلسفة أو يقرؤها في الرياضيّات أو الأُصول يُراجِع كلِّ المنطق ليرى أنّه توجد مغالطة أو لا توجد ، لا يُمكنه ذلك ؛ إذا لم تكن أُسس المغالطات ، و لم تكن قواعد البرهان و الجدل بيده و حافظُها فإنّ لا يستطيع بمجرّد أن يرى استدلالاً ما ، أن يقول هذا الاستدلال فيه مغالطة ! و مغالطته أولاً ، ثانياً ، ثالثاً ... و لا يستطيع أن يقول هذه المادّة فيها إشكال و أنّ هذه الهيئة فيها إشكال ، و إنّما يستطيع أن يقول ذلك عندما يكون علمُ المنطق ملكة ، فلهذا الأُخوة لا يتبادر إلى أذهانهم أنّهم يكتفون بمعرفة المنطق من خلال الكتاب ، يعني يتصوّر أنّه بمجرّد أن يرجِع إلى الكتاب يفهم و عندها لا حاجة له إلى أن يحفظ القواعد ، لا ، علم المنطق ليس بهذا الشكل ، فأنت لكي تكونَ رياضيّاً فهل تكتفي بمعرفة الرياضيّات من خلال الرجوع إلى كتاب أو لا بدّ أن تكون حافظاً للقواعد الرياضيّة ؟ من الواضح أنّك لا تستطيع الاستفادة من تلك القواعد إلاّ إذا حفظتها ، و بعبارةٍ أُخرى كما ـ نحن ـ نعبّر مراراً بأنّ المنطق لا بدّ أن يصير علماً متّصلاً لا علماً منفصلاً ، أي لا بدّ أن يكونَ دائماً مع الإنسان و ليس أن يكون علمُه في الكتاب متى شاء أن يرجِع إليه رجَعَ في الكتاب ، هذا العلم المنفصل علمٌ لا فائدة منه فهو قابلٌ للضياع ، أي هذا الكتاب و الحواشي الموجودة عليه بمجرّد أن يضيع من الإنسان فعلمُه أيضاً يضيع بخلاف العلم المتّصل فإنّه يبقى مع الإنسان و لا يُمكن أن يسلُبه أحدٌ من الإنسان .
إلى هنا اتّضح لنا ما هو تعريفُ العلم ، و ما هو فائدةُ هذا العلم ، و اتّضح بأنّ الإنسان لا يستطيع أن يدخُلَ في أيِّ علمٍ فقهاً، أُصولاً ، فلسفةً ، كلاماً ، تفسيراً ... إلاّ إذا كان عارفاً بمسائلِ علمِ المنطق ، أمّا إذا لم يتعرّف على هذه المسائل فيدخُل من قبيل الأعمى الذي ليست له آلة و أداة يستطيع أن يُشخِّص الصحيحَ من السقيم ، الباطلَ من الحقّ ، فلعلّه يتصوّر هذا الاستدلال تامّ و يصل إلى نتيجة تامّة و لكن في الواقع هذا الاستدلال يكون في شكله اشكال و في مادّته اشكال .
نُكتة مهمّة
ــــ0
و هي أنّه ممّا تقدّم اتّضح لنا أنّ هذا الطريق الذي اكتشفه أُرسطو في عمليّة التفكير هل هو الطريق المنحصر في عمليّة التفكير أو لا يوجد عندنا دليل على الاستقراء ؟
الجواب : من الواضح أنّه هذا الطريق اكتشفه أُرسطو للاستدلال في بعض المسائل المنطقيّة ، و لعلّ هناك طُرُق أُخرى لعمليّة التفكير ـ أيضاً ـ توصِلُ إلى نتائج صحيحة ، و هذا ما أثبته السيّدُ الشهيد ( رحمة الله تعالى عليه ) في " الأُسس المنطقيّة للاستقراء " .
المنطق الأُورسطي يبتني على أنّ القياس موصِلٌ إلى نتيجة ، و لكنّ الاستقراء هل يوصِل إلى نتيجة قطعيّة أو لا ؟ انشاء الله سيأتي أنّ الاستقراء لا يُمكن أو يُوصِل إلى نتيجة قطعيّة إن لم يكن متضمِّناً للقياس ؛ يعني الاستقراء لكي يُفسد اليقين أو يُفيد القطع لا بدّ أن يتضمّن استدلالاً قياسيّاً ، و السيّد الشهيد قال : لا ، بل يُمكن للاستقراء أن يؤدّي إلى نتيجة قطعيّة و إن لم يكن فيه قياسٌ ، و هذا معناه اكتشاف طريق آخر في عمليّة التفكير للوصول إلى المجهول من خلال المعلومات ، و بعبارةٍ واضحة : أنّ أرسطو بيّن طريقاً للوصول من المعلوم للكشف عن المجهول ، و السيّد الشهيد ( رحمة الله تعالى عليه ) بيّن طريقاً آخر و ليس أنّه نسخ الطريقَ الأوّل ، لأنّه قد يرى بعض الأُخوة أنّ السيّد الشهيد عندما كتب " الأُسس المنطقيّة " إنّما نسخ المنطق الأُورسطي فنحن بعدذلك لا نحتاج إلى منطق أُرسطو ! و نقول : أنّ الأمر ليس كذلك و إنّما السيّد الشهيد قال : أنّ هناك طريق آخر للكشف عن المجهولات ، الطريق الأول ذكره أُرسطو ، و الطريق الثاني نذكره نحن في " الأُسس المنطقيّة للاستقراء " و لعلّه بعد كذا سنة ـ أيضاً ـ يأتي منطقيٌّ آخر فيقول : ليس فقط الطريق الأول و الطريق الثاني بل يوجد هناك طريق ثالث للاستفادة من المعلومات للكشف عن أمرٍ مجهول ، و بعبارةٍ ثالثة أقولُها صريحة : أنّ هذا الطريق ليس بنحو الحصر العقليّ ـ يعني لا يوجد طريقٌ غيرُه ـ و إنّما هو من باب الاستقراء ـ الحصر الاستقرائيّ ـ يعني أنّه أنا اكتشفتُ هذا الطريق ، و أنت أيضاً تبحثُ عن طريقٍ آخر فيوصلُك إلى المقصد و هو الكشفُ عن المجهول ، فلهذا هذه النقطة يجب أن تكون واضحة في ذهن الأُخوة و هي : أنّه لا المنطق الأُورسطيّ ينسخ المنطق الاستقرائيّ و لا المنطق الاستقرائيّ ينسخ المنطق الأُورسطيّ ، و لا المنطق القياسيّ يقول : إذن لا نحتاجُ إلى الاستقراء ، و لا المنطق الاستقرائيّ يقول : إذن لا نحتاجُ إلى القياس ، بل كلٌّ يؤدِّي دورُه في دائرته الخاصّة به .
موضوع علم المنطق
ـــــــ0
من الأبحاث التي تُذكر ـ عادةً ـ في كتب المناطقة و التي لم يُشِر إليها المصنّف هو أنّ موضوعَ هذا العلم ما هو ؟ يعني ـ المصنّف ـ بيّن فائدة العلم و بيّن تعريفَ العلم ، و لكن لم يُبيّن موضوعَ هذا العلم ، فما هو المرادُ من موضوع العلم ـ علم المنطق ـ يعني ما هو ذلك المحور التي تدور مسائل ذلك العلم حول ذلك المحور ؟ فمثلاً الأُخوة يعلمون أنّه في باب التوحيد المحور هو ( الله سُبحانه و تعالى ) أي الله موجود أو غير موجود ، الله واحد أو ليس بواحد ، الله قادر أو ليس بقادر ، الله سميع أو ليس بسميع ... هذه كلُّها مسائل تدورُ حول واحدٍ و هو محور ( الله جلّ و علا ) فهذه المسائل تدورُ حول ذلك المحور ، و ذلك المحور نُسمّيه الموضوع ، وتفصيل هذا الأمر نوكله ـ إنشاء الله ـ إلى دراسات أعمق .
و لكن هل يوجد هنا ـ في علم المنطق ـ محورٌ واحدٌ تدورُ حولَه مسائلُ علم المنطق أو لا يوجد هناك محورٌ واحد ؟ و الجواب : توجد هناك أقوالٌ متعدِّدة ، و لكنّ القولَ المشهور بين المحقّقين المتأخّرين من علماء المنطق : أنّ المحور في علم المنطق هو ( التعريف ـ المعرِّف ـ و الحُجّة ـ الدليل ـ ) فالتعريف : في الأُمور التصوريّة ، و الحُجّة : في الأُمور التصديقيّة ، لأنّه أنت لا تستطيع أن تُقيم الحُجّة على شيءٍ إلاّ أن تعرفَ ذلك الشيء أولاً ، فهل تستطيع أن تُقيم الحُجّة على أنّ الماءَ موجود من غير أن تعرف ما هو الماء ؟ لا يُمكن ؛ فإذا لم أتصوّر فأنا أُقيمُ الدليل على ماذا ؟ إذن ، لا بدّ أن أتصورّهُ أولاً و هو ( المعرِّف ـ التعريف ـ ) و ثانياً أن أُقيمَ الدليلَ على وجوده و هو ( الحُجّة ) و الدليل لإثبات وجوده ، و من هنا القول المحقّق بين المتأخّرين قالوا : أنّ موضوعَ علم المنطق هو ( المعرِّف ـ التعريفُ ـُ و الحُجّة ـ الدليل ـ ) فالتعريف مرتبطٌ بالجوانب التصوريّة ، و الحُجّة مرتبطٌ بالجوانب التصديقيّة كما سنُشيرُ إليه بعد ذلك .
النصّ :
} العلم
تمهيد :
قلنا : إنّ الله تعالى خلق الإنسان مفطوراً على التفكير ، مستعدّاً لتحصيل المعارف بما أُعطي من قوّة عاقلة مفكّرة يمتازُ بها عن العجماوات . و لا بأس ببيان موطن هذا الامتياز من أقسام العلم الذي نبحثُ عنه ، مقدّمة لتعريف العلم ، و لبيان علاقة المنطق به ، فنقول : { .
ــــــــــــــــــ0
الشرح :
المصنّف هنا يدخل في بحثٍ آخر ، و هو بحثُ " العلم " أمّا لماذا دخل في بحث العلم و يحتاج إلى تعريف العلم ، باعتبار أنّه سيأتي ـ إنشاء الله ـ و أشرنا في موضوع علم المنطق أنّ موضوع علم المنطق هو المعرِّف و الحُجّة ، و قلنا أنّ التعريف مرتبطٌ بالتصّور ، و أنّ الحُجّة مرتبطٌ بالتصديق ، إذن ، نحن نريد أن نبحث عن التصوّر و التصديق ، و هذا السؤال يأتي : إذن ما هو مقسَمُ هذين القسمين ، هل هناك مقسم بينهما أو لا يوجد مقسم لهما ؟ المقسمُ لهما هو ( العلم ) فالعلم ينقسمُ إلى التصوّر و إلى التصديق ، و لكن أيُّ علمٍ ، هل مطلقُ العلم ينقسمُ إلى التصوّر و التصديق أو أنّ هناك قسماً خاصّاً من العلم ينقسمُ إلى التصوّر و التصديق ؟
الآن يجب الالتفات للمطلب ، لأنّه نحن في المنطق ماذا نريد أن نبحث ، هذا التصوّر و التصديق موضوعُه و مقسمُه ما هو ؟
الجواب : تقسيمات عديدة موجودة للعلم ، و لكنّ المرتبط بمحلِّ كلامنا هذين التقسمين :
العلم الفعليّ و العلم الإنفعاليّ
ــــــــــــ0
التقسيمُ الأول : يُقسّم العلم إلى علم ( فعليّ ) و علم ( إنفعاليّ ) .
و المراد من العلم الفعليّ : هو ذلك العلم الذي يوجَدُ قبل المعلوم .
و المراد من العلم الانفعاليّ : هو ذلك العلم الذي يوجَدُ بعد المعلوم .
مثال توضيحيّ : جنابك تعلم بهذا الكتاب قبل هذا الكتاب أو بعد هذا الكتاب ؟ من الواضح أنّ هذا الكتاب إذا لم يكن موجوداً لا يُمكن أن يحصل لك به علم إلاّ بعد وجوده ، فأنت علمُك فعليّ أو انفعاليّ ؟ أنت انفعلتَ من هذا الكتاب ، تأثّرت من هذا الكتاب فحصلَ لك علمُ أو أنت أثّرتَ في وجوده ؟ يعني بعبارةٍ واضحة : علمُك أوجدَ هذا الكتاب أو الكتاب أوجد علمك ؟ نقول : من الواضح أنّ هذا الكتاب هو الذي أوجد علمك ، فيكون بمنزلة الفاعل و ذلك العلم يكون بمنزلة القابل و المنفعل .
أمّا عندنا علوم أُخرى هي علوم فعليّة ، يعني أنّ العلمَ يوجِدُ المعلوم من قبيل المهندس ـ هذا مثال تقريبي للذهن و إلاّ هذه الأمثلة ليست هي المقصودة بالذات ، و إنّما فقط هي لتقريب المطلب إلى الأذهان فنقول : مهندس مثلاً ـ فالمهندس عندما يجلس و يرسمُ في ذهنه صورة لبناء بيت ، فهذا البيت الذي رسمه في ذهنه حتّى يبني البيت على تلك الصورة التي في ذهنه ، فهذه الصورة الموجودة في البيت هل هي مأخوذة من الخارج أو الخارج مأخوذٌ من الصورة ؟ فإذن ، تبيّن أنّ هذا العلم مأخوذٌ من الخارج أو الخارج أُخِذَ منه و تُرتّب على أساس العلم ، أيٌّ منهما ؟ و هذا العلم نسمّيه " علمٌ فعليّ " و ليس " علمٌ انفعاليّ " و أمّا لماذا قسّمنا هذا التقسيم ؟ نقول : حتّى نقول أنّ علم الله سبحانه و تعالى ليس علماً انفعاليّاً و إنّما علمه علمٌ فعليّ ، يعني خلق عالمَ الإنسان على الصورة العلميّة الموجودة عنده ، و ليس أنّ الله سبحانه و تعالى بعد أن أوجدَ عالمَ الإنسان لم يكن يعلم به ثمّ حصلت له صور في ذهنه عمّا خلقه !!
إذن ، أولاً هذا التقسيم الذي نذكره للعلم أنّه تصوّرٌ و تصديق إنّما مقسَمه هو العلمُ الإنفعاليّ لا العلم الفعليّ ، من قبيل علم الحقّ سُبحانه و تعالى قبل إيجاد الأشياء لأنّه الله يعلمُ بالأشياء قبل إيجادها ، إذن ، علمه تعالى ليس مأخوذاً من الخارج و إنّما الخارجُ وجِدَ على أساس علمه سُبحانه و تعالى .
إذن ، هذا الذي نبحثُه هنا من أنّ العلمَ إمّا تصوّرٌ و إمّا تصديق ، المراد من العلم هنا العلمُ الانفعاليّ في قبال العلم الفعليّ . هذا أولاً ، و هذا التقسيم لم يُشِر إليه المصنّف رحمةُ الله تعالى عليه، و ثانياً :
العلم الحضوريّ و العلم الحصوليّ
ــــــــــــ0
التقسيم الثاني للعلم : و هو الذي أشار إليه المصنّف ، و هو أنّ العلم قد يكونُ علماً حضوريّاً و قد يكونُ علماً حصوليّاً .
العلم الحضوريّ و العلم الحصوليّ قسمان من العلم ، و بينهما فروقٌ كثيرة ، و لكي نُبيّن الفروق أضرب أمثلة للإخوة و من خلال الأمثلة أصِل إلى النتائج الكليّة .
أمثلة :
أنتم عندما تتألّمون ، سواءٌ كان هذا التألّم منشأه الضرب بسكين أو من جرّاء حريقٍ في بناءٍ ما أو بأيّ سببٍ آخر ، فأنت الآن متألّم ، يوجد عندك ألم ، و هذا الألم الموجود عندك هل هو نفس الألم موجود عندك أو أنّ هذا الألم إنّما هو صورة من الألم موجودة عندك ؟ من الواضح إذا كان الألم الذي عندك هو صورة من الألم فإنّ وضعك ـ من الواضح ـ يكون مثلَ الطبيب ، فالطبين عندما تذهب إليه و تقول له بأنّ يدك مجروحة ، فالطبيب عنده صورة الألم ، لأنّه إذا لم تكن لدى الطبيب صورة الألم و الجرح المترتّب عليه فإنّه لا يستطيع أن يُعطيك الدواء المناسب ، لأنّ الطبيب وظيفته أنّك تشرح له صورة الجرح و عندما تُبيّن له الجرح فإنّه يعرف الألم المترتّب على الجرح ، فأنت ترى بعذ الأطباء عندما تذهب إليه يقول لك : الألم بهذا الشكل أو بهذا الشكل ، و هذا معناه أنّ الطبيب يتصوّر الألم و لكن هل الطبيب عندما يتصوّر الألم يتألّم أم لا ؟ قطعاً لا يتألّم ، لماذا ؟ لأنّه توجد عند الطبيب صورة الألم ، و لكن أنت صاحب الألم إنّما عندك الالم نفسه لا صورة الألم، فهذا وجود الألم نُسمّيه " علم حضوريّ " ، و الصورة الموجودة عند الطبيب عن هذا الواقع الوجودي ، عن هذا الألم الموجود عند " زيدٍ " نُسمّيه " علم حصوليّ " ؛ و العلم الحصوليّ و العلم الحضوريّ قد يجتمعان في شخصٍ واحد .
مثال اجتماع العلم الحصوليّ و العلم الحضوريّ في شخصٍ واحد
ــــــــــــــــــــــــــ0
الآن أنت متألِّم ثمّ يذهب منك الألم بعد أن يُعطيك الطبيب الدواء ، فصورة الألم أنت تستطيع أن تحتفظ بها ، بعد أخذ الدواء لا يوجد عندك ألم ، و لكن صورة الألم ما زالت محفوظة عندك ، فمرّةً الإنسان يشرب أو يذوق العسل ، فذوقُه للعسل و إحساسُه بالحلاوة معناه أنّه عنده صورة من الحلاوة أو نفس الحلاوة ؟ نقول : عند التذوّق عنده نفس الحلاوة ، و أُخرى لا ، انتهى هو من تذوّق و شرب العسل فلا يوجد عسل ، فالآن هو يستطيع أن يتصوّر صورة الحلاوة و العسل أو لا يستطيع أن يتصور ؟ يستطيع أن يتصوّر ؛ فالأول نُسمّيه " علم حضوريّ " و هذا الثاني نُسمّيه " علم حصوليّ " .
مثال ثالث أوضح : الطفل عندما ينام و ينتابه إحساسٌ بأنّ دماً يخرُج من يده ، أو ينتابه إحساسٌ بألم الجوع ، فهذا الطفل لديه إحساس بالألم و إلاّ إذا لم يكن لديه إحساسٌ بالألم من جرّاء خروج الدم من يده أو الألم من الجوع فإنّه لا يبكي ، و لكن لو قلت لهذا الطفل و لنفرض أنّ عمره كان ستة أو ثلاثة أشهر : هذا ألم و هذا جوع ، فهو لا يفهم ماذا هو الجوع و ماذا هو الألم ، و لكن في نفس الوقت هذا الطفل لديه إحساسٌ بالألم و الجوع ! فمن هنا يُمكن أن ينفكّ العلم الحصوليّ عن العلم الحضوريّ ، بمعنى أنّه يوجد علم حضوريّ ـ و هو وجود الألم ـ و لكن العلم الحصوليّ بالألم قد يكون موجوداً و قد لا يكون موجوداً ؛ و من هنا اتّضح لنا :
أولاً / أنّ العلم الحضوريّ شيءٌ و العلمُ الحصوليّ شيءٌ آخر .
و ثانياً / أنّهما متلازمان في الوجود أو أنّ أحدهما ينفكُّ عن الآخر ، يعني إذا وُجِدَ العلمُ الحضوريّ لا بدّ أن يوجَدَ العلم الحصوليّ أو لا يُشتَرَطُ ذلك ؟ نقول : لا يُشتِرَطُ ذلك ، لأنّه قد يوجدُ علمٌ حضوريّ و لا يوجدُ علمٌ حصول ، و من حقّك أن تسألني سؤال و تقول : سيّدنا هل يُمكن أن يوجد علمٌ حصوليّ و لا يوجد علمٌ حضوريّ ؟ هذا السؤال جوابُه موكولٌ ـ إنشاء الله ـ إلى الدراسات الفلسفيّة العميقة المطلب ، و هو أنّه عرفنا أنّه يُمكن أن يوجد علم حضوريّ من دون وجود علم حصوليّ و لكن هل يُمكن أن يوجد علم حصوليّ من دون وجودعلم حضوريّ أو لا يُكمن ؟ نقول : السيّد الطبْطبائيّ ـ رحمةُ الله تعالى عليه ـ صاحبُ " الميزان " يقول : لا يُعقَل ، إذا وُجِدَ علمٌ حصوليّ فلا بدّ أن يوجَدَ علمٌ حضوريّ قبل ذلك ، و هذا الكلام خارجٌ هنا عن كلامنا و إنّما المهمّ النتيجة التي وصلنا إليها : من أنّ العلم حضوريٌّ و حصوليّ أولاً ، و ثانياً : أنّ الحصوليّ قد ينفكُّ عن الحضوريّ و ليس أنّه قد ينفكُّ أحدهما عن الآخر ، أي أنّ التعبير بـ ( قد ينفكُّ أحدهما عن الآخر ) هو تعبير مغلوط لا يصحّ القول به ، و إنّما الذي يجب أن يُكتب هو هذا التعبير : ( أنّ العلم الحصوليّ قد ينفكُّ عن العلم الحضوريّ و لا ينفكُّ الحضوريّ عن الحصوليّ ) .
الآن لو أردنا أن نُبيّن خصائص هذين القسمين ، فما هما خصائصهما ؟
خصائص العلم الحضوريّ و العلم الحصوليّ
ــــــــــــــــ0
الخصوصيّة الأولى : أنّه في العلم الحضوري ، أنت يوجدُ عندك نفسُ وجود الشيء و ليس صورةُ الشيء ، يعني وجود نفس الألم و ليس وجود صورة الألم ، فإذا كان نفس الألم موجود فآثار الألم أيضاً موجودة ، و آثار الألم من قبيل الصراخ و الصياح و العويل و نحو ذلك ، بخلافه في العلم الحصوليّ فأنت في العلم الحصوليّ إنّما عندك صورة الشيء حاصلة و ليس نفس وجود الشيء حاصلٌ و في هذه الحال إذا كانت صورة الشيء موجودة فإنّه لا تكون آثار الشيء موجودة ، يعني مرّةً أنت ( النار ) حاصلةٌ عندك ، يعني يدك في النار فإذا كانت يدك في النار فمعنى ذلك أنّ نفس وجود النار حاصلة في يدك ـ لأنّ يدك تحترق بالنار ـ لا أنّ صورة وجود النار حاصلة في يدك ، و إذا كان الأمر كذلك ـ وجود النار حاصلٌ في يدك ـ فإنّ آثار النار موجودة و الآثار هو ( الإحراق لليد ) ، و مرّةً أُخرى أنّ الحاصل ليس هو وجود النار و إنّما صورةُ النار حاصلة ، و إذا كان الأمر كذلك ـ صورةُ النار حاصلة لا نفس النار ـ فإنّ الآثار ـ الإحراق ـ غير موجودة ، لأنّه الأثر للوجود لا للصورة المأخوذة عن ذلك الوجود ، و من هنا أنت أذا تصوّرت النار لا تحترق ، و أيضاً إذا تصوّرت الكافر أو الفاسق لا تكون كافراً و لا فاسقاً ، ( لأنّ تصوّرك للكافر و الفاسق إنّما هو صورة من الكافر و الفاسق حصلت في الذهن لانفس الكفر و الفسق في الواقع الوجودي للكافر و الفاسق ) نعم إذا كان الكافرُ أو الفاسقُ عندك تكون كافراً أو فاسقاً ، إذا كانت النارُ عندك فتكون محرقة لأنّ آثارها عندك .
إذن الفرق الأول الأساسي بين الحضوريّ و الحصوليّ : أنّ الحضوريَّ بوجوده موجودٌ و حاضرٌ عند العالم ، و أنّ الحصوليَّ بصورةٍ مأخوذةٍ منه حاضرٌ عند العالم ,هذا الفرقُ الأول .
الفرقُ الثاني : في العلم الحضوري ، الوجود الذهني ـ يعني الصورة ـ و الوجود العينيّ ـ يعني الوجود الخارجي ـ فالوجود الذهنيّ و الوجود العينيّ هذين في العلم الحضوريّ شيءٌ واحد لا اثنين ، لأنّه لا يوجدُ عندنا صورة و وجود خارجيّ و إنّما الذي عندنا في العلم الحضوريّ هو الوجودُ الخارجي فقط ، و أمّا في العلم الحصوليّ فيختلفُ الأمر فإنّه هناك ـ في العلم الحصوليّ ـ اثنينيّة بين الصورة و بين الواقع الخارجيّ ، و من هنا يحصل الخطأ ، لأنّ هذه الصورة قد تُطابق الواقع الخارجي و قد لا تطابق الواقع الخارجي ، و أمّا في العلم الحضوريّ فإنّه لا يُعقَلُ الخطأ ، لأنّه في العلم الحضوريّ لا اثنينيّة بين الصورة و الواقع الخارجي و إنّما الموجود هو أنّ الوجود إمّا حاصلٌ و إمّا غير حاصل ، فإذا كان موجوداً فهو حاصلٌ و لا يخطأ الإنسان ، و إذا لم يكن موجوداً فإنّه لا يوجد شيء حتّى يخطأ أو لا يخطأ .
الفرق الثالث : إذن ، يتّضح الفرق الثالث بين الحضوريّ و الحصوليّ : أنّ الحضوريّ لا معنى للخطأ فيه ، و لكنّ الحصوليّ فيه صحيحٌ و خطأ ؛ و من هنا نحن احتجنا إلى علم المنطق حتّى يُصحِّحَ لنا هذا الخطأ ، و من أصبح يتبيّن شيئاً فشيئاً أنّ ( علم المنطق ) إنّما مجراه في العلم الحصوليّ و لا علاقة له بالعلم الحضوريّ .
و هناك فروق أُخرى و هي ـ إنشاء الله تعالى ـ موكولة إلى دراسات أعمق ,
ممّا تقدّم يتّضِحُ لنا : أنّ التقسيم الذي يقول أنّ العلم إمّا تصوّرٌ و إمّا تصديق يُتَوصّل من معلومٍ إلى مجهول تصديقاً تصوّراً ، هذه تكون أقسام العلم الحصوليّ .
إذن ، قولُ المصنّف ( العلم ) هذا هنا كان ينبغي للمصنّف أن يُقيّده بقيدين :
التقييدُ الأول : العلمُ الإنفعاليّ في قبال العلم الفعليّ .
التقييدُ الثاني : العلمُ الحصوليّ في قبال العلم الحضوريّ .
هذا التقييد الثاني يظهرُ أنّ المصنّف استدركه في الحاشية ، قال : ( المبحوثُ عنه هنا هو العلمُ المعبّر عنه في لسان الفلاسفة بالعلم الحصوليّ ) ، أمّا ـ مع الأسف ـ أنّ الأوّل لم يُبيّنه و إن كان في الشرح بنحو الإجمال موجود ، و لكن كان ينبغي أن يذكره .
تذييل على ما لم يذكره المصنّف :
هذه طبيعة في الفصول و هي : أنّه أنت لا بدّ أن تعنون الفصل بالمطالب التي تريد أن تبرهن عليها تحت ذلك الفصل ، أي أنت ماذا تريد أن تبيّن في ذلك الفصل ، هل تريد أن تبيّن تحت ذلك الفصل أنّ العلمَ إنفعاليّ لا فعليّ و أنّه حصوليٌّ لا حضوريّ ، فإذن ، لا بدّ أن تقول : ( العلم الحصوليّ الإنفعاليّ ينقسم إلى كذا و كذاُ ) يعني هذا العنوان و من ثمّ تبيّن له المطلب .
شرح الغامض من حاشية الشيخ المظفّر عن ( العلم ) :
نص الحاشيةّ :
} المبحوث عنه هنا هو العلم المعبّر عنه في لسان الفلاسفة بالعلم " الحصوليّ " . أمّا العلم " الحضوريّ " ـكعلم النفس بذاتها و بصفاتها القائمة بذاتها و بأفعالها و أحكامها و أحاديثها النفسيّة ، و كعلم الله تعالى بنفسه و بمخلوقاته ـ فلا تدخل فيه الأبحاث الآتية في الكتاب ، لأنّه ليس حصوله للعالم بارتسام صورة المعلوم في نفسه ، بل بحضور نفس المعلوم بوجوده الخارجيّ العينيّ للعالم ، فإنّ الواحد منّا يجدُ من نفسه أنّه يعلم بنفسه و شؤونها و يُدركها حقّ الإدراك ، و لكن لا بانتقاش صورها ، و إنّما الشيء الموجود هو حاضرٌ لذاته دائماً بنفس وجودها ، و كذا المخلوقات حاضرة لخالقها بنفس وجودها . فيكون الفرق بين الحصوليّ و الحضوريّ :
1- أنّ الحصوليّ هو حضور صورة المعلوم لدى العالم ، و الحضوريّ هو حضور نفس المعلوم لدى العالم .
2- أنّ المعلوم بالعلم الحصوليّ وجوده العلميّ غير وجوده العينيّ ، و أنّ المعلوم بالعلم الحضوريّ وجوده العلميّ عين وجوده العينيّ .
3- أنّ الحصوليّ هو الذي ينقسم إلى التصوّر و التصديق ، و الحضوريّ لا ينقسم إلى التصوّر و التصديق { .
ــــــــــــــــــ0
شرح الحاشية :
( كعلم النفس بذاتها ) : هذا ( علم النفس بذاتها ) ليس هو الذي تقول : أنا موجودٌ هو علم حضوري و إنّما (علم النفس بذاتها : أنا موجودٌ ) هذا علم حصوليّ ، لأنّ هذا ( أنا موجودٌ ) مأخوذٌ من ذلك العلم الحضوريّ ، فلا يحدث منشأ توهّم أنّه أنا عندما أقول ( أنا موجودٌ ) يعني هذا علم حضوريّ ! لا ، ليس هذا علم حضوريّ ، و إنّما هذا ـ أنا موجودٌ ـ هو علم حصوليّ مأخوذ من العلم الحضوريّ ، أي مأخوذ من علم النفس بذاتها ، من قبيل أن تقول : ( أنا متألّمٌ ) فقولك ( أنا متألّمٌ ) هو علم حصوليّ ، لأنّ الحضوريّ هو نفس التألّم الحاضر عندك ، و ليس ( أنا متألّمٌ ) هو العلم الحضوريّ و إنّما هو حصولٌ من ذلك العلم الحضوريّ ؛ فهذه ( أنا متألّمٌ ) قد تخطأُ فيها .
( أنا عطشانٌ ) ـ التفتوا جيّداً ـ : هذه ( أنا عطشانٌ ) علم حصوليّ ، و الشاهد على ذلك هو : لعلّه أنت غير عطشان و إنّما أنت جائع فيشتبه عليك الأمر فتتصوّر أنّك عطشان بينما أنت جائع ، فعندما يأتون لك بالماء باعتبار أنّك عطشان ترى أنّك ليس بعطشان و لكنّه أنت جائع فاختلط عليك الأمر، لشدّة الجوع أنت تقول ( أنا عطشان ) و هذا ممكنٌ وروده ، فهذا معناه أنّ هذا ، قولك ( أنا عطشان ) هو علم حصوليّ ، لأنّ العلم الحصوليّ يحتمِلُ الخطأ و الصحّة ، و أمّا العلم الحضوريّ فلا مجال فيه للخطأ .
إذن ، فهذه ( كعلم النفس بذاتها ) و علم الإنسان بنفسه ، هذه ليس المراد منها و معناها ( أنا موجودٌ ، أنا متألّمٌ ، أنا فرحانٌ ، أنا ، أنا ... ) فهذه جُمل " الأنا " ليست علوم حضوريّة و إنّما هي علوم حصوليّة مأخوذة من تلك العلوم الحضوريّة ، و قد تُطابقُها و قد تُخطِأُ فيه ، يعني قد تكون مطابقة للواقع و قد تكون مخالفة للواقع .
إذن تعبير المصنّف ( كعلم النفس بذاتها و بصفاتها القائمة بذاتها و بأفعالها و أحكامها و أحاديثها النفسيّة ) فـ ( أنا مريدٌ ) هذا ليس علم حضوري بل حصولي ، نعم ، نفسُ الإرادة هي علم حضوريّ ، أنت عندما تشتاقُ إلى شيءٍ ، هذا الإشتياق إلى الشيء هو العلم الحضوريّ بالإرادة ، و أمّا عندما تقول : ( أنا مريدٌ لشيء كذاٍ ) فهذا علم حصوليّ لا حضوريّ ؛ و هذا الإشتباه كثيراً ما يقع ، فيتصوّر البعض أنّنا عندما نقول ( أنا موجودٌ ، أنا مريدٌ ، أنا متألّمٌ ... ) أنّ هذه كلّها علوم حضوريّة ، فنقول : لا ، هذه ليست علوم حضوريّة و إنّما هي علوم حصوليّة .
( و كعلم الله تعالى بنفسه و بمخلوقاته ـ فلا تدخل الأبحاث الآتية في الكتاب ) : أي من الآن فصاعداً سيكون حديثنا في العلم الحصوليّ ، أي كلّ المنطق و كلّ الفلسفة و كلّ الكلام ، هذه كلُّها علوم حصوليّة و لا علاقة لها بالعلم الحضوريّ .
( لأنّه ليس حصوله ) : أي العلم الحضوريّ .
( فإنّ الواحد منّا يجد من نفسه أنّه يعلم بنفسه ... ) : أي ليس ( أنا عالمٌ بنفسي ) لأنّه هذا ليس علماً حصوليّاً ، فأنت ترى أنّ العبارات موهِمَة بأنّه علم حضوري بينما هذا ليس علم حضوري بل حصولي .
( و لكن لا بانتقاش صورها ) : أي و لكن يعلمها لا بانتقاش صورها .
( و إنّما الشيء الموجود هو حاضرٌ لذاته بنفس وجوده ) : فالغفلة ـ إذن ـ في العلم الحضوريّ غير معقولة ، لأنّه نفس الحضور ، نعم ، في العلم الحصوليّ أنت قد تغفل ، فلا تدري أنّك متألّم ، فعندما تُصاب رجلك بجرح فأنت تارةً تعلم أنّ رجلك مجروحة و أُخرى لا تعلم ، فهذه ( لا تعلم ) لا تعني أنّ الألم ليس بموجود ، بل هو موجود و إنّما أنت غيرُ ملتفتٍ إلى ذلك الألم .
أقول : و بعد أن يقرأ السيّد " حفظه الله تعالى " الحاشية و ينتهي من تعداد الفروق التي ذكرها الشيخ المظفّر ـ رحمةُ الله تعالى عليه ـ يُضيف عليها فرقاً رابعاً ، فيقول :
و رابعاً : أنّه لا يقعُ الخطأ في الحضوريّ و يقعُ في الحصوليّ .
و خامساً : بأنّ الغفلة في الحضوريّ غيرُ معقول و لكن في الحصوليّ معقول .
و تتمّة الكلام تأتي إنشاء الله ، و الحمدُ لله ربّ العالمين .
و به نستعين
عن الإمام الصّادق ( عليه أفضل الصّلاة و السّلام ) قال : إنّ الله ـ عزّ و جلّ ـ يقول لملائكته عند انصراف أهل مجالس الذِّكر و العلم إلى منازلهم : اكتبوا ثواب ما شاهدتموه من أعمالهم فيكتبون لكلّ واحدٍ ثواب عمله و يتركون بعض من حضر معهم فلا يكتبونه ، فيقولُ الله ـ عزّ و جلّ ـ : ما لكم لم تكتبوا فلاناً ، أليس كان معهم و قد شهِدَهم ، فيقولون : يا ربّ إنّه لم يَشْرَك معهم بحرْفٍ و لا تكلّم معهم بكلمةً ، فيقول الجليلُ جلّ جلاله : أليس كان جليسهُم ، فيقولون : بلى يا ربّ ، فيقول : اكتبوه معهم ؛ إنّهم قومٌ لا يشقى بهم جليسهُم ، فيكتبونه معهم ، فيقول تعالى : اكتبوا له ثواباً مثل ثوابَ أحدهم .
انتهينا في عبارة المصنّف ( رحمةُ الله تعالى عليه ) إلى قوله : ( و لو قلتم أنّ الناس يدرسون المنطق و يخطأون في تفكيرهم فلا نفع فيه ، قلنا لهم : ... ) .
بينّا فيما سبق أنّ فائدة المنطق ما هي ؟ حيثُ بينّا أنّ فائدة المنطق هي تصحيح الفكر و ترتيب المعلومات للوصول إلى أمرٍ مجهول ، تنظيمُ ما يعلمه الإنسان للوصول و للكشف عن أمرٍ مجهول بالنّحو الذي شرحناه مفصّلاً في الدرس السابق .
ورد هنا إشكال ، بأنّه : لو كانت فائدةُ المنطق هذه ـ أي تصحيح الفكر و تنظيمه ... ـ فلماذا نجدُ أنّ كلّ الذين يعلمون المنطق لا تكونُ أفكارهم صحيحة ، ما السببُ في ذلك ؟
قلنا : هناك جوابٌ نقضي و حلّيّ لهذا الإشكال ، فأمّا الجواب النقضي لذلك فهو : بأنّه نجد أنّ كلّ من تعلّم علماً ليس معناه أنّه لا يُخطِيءُ فيه ، فكم من تعلّم علم النّحو و لكنّه يُخطِيءُ في اللسان ، و كم من تعلّم علم العروض و لكنّه يُخطِيءُ في أوزان الشعر .
هذا الجواب النقضي ، و لكن ـ مراراً ـ ذكرنا بأنّ النقض لا يحِلُّ الإشكال و إنّما يزيدُ الإشكال إشكالاً ، كيف ؟ نقول : بأنّه يرِدُ نفس هذا النقض في علم العروض و يرد في علم النحو ، فإذن هذا ليس جواباً عن الإشكال ، و إنّما الجوابُ عن الإشكال هو : أنّ المنطق لا يُخطِيء و لكنّ المنطقيّ قد لا يستعملُ هذا العلم بدقيقه كما هو مطلوبٌ على ما ينبغي أن يستعمله ، فلهذا قد يُخطِيء و إلاّ لو راعى كلّ القواعد المنصوصِ عليها هيئةً و مادّةً فإنّه لا يُخطِأ و لا في مرّةٍ واحدة ، نعم ، لو لم يُراعي ذلك في بعض الموارد يُخطِأ و سببُ خطأه عدمُ المراعاة الصحيحة للموادّ و للهيئات و للصور ، فلهذا قال : ( و لو قلتم أنّ الناس يدرسون المنطق و يُخطِأون في تفكيرهم و عليه فلا نفع فيه ، قلنا لكم : إنّ الناس يدرسون علمي النّحو و الصرف فيُخطِأون في نُطقهم ) ، هذا هو الجواب النقضي ؛ و لكن ليس الجواب التامّ ، إنّما الجواب التامّ هذا الحلّ ، قال : ( و ليس ذلك إلاّ لأنّ الدارس للعلم لا يحَصَلُ على ملكة العلم ) ، يعني أنّ القواعد لا تكون له بنحو الملكة الراسخة التي لا يشتبهُ في تطبيقها ، ( أو لا يُراعي قواعدَ العلم عند الحاجة أو يُخطِأ في تطبيقها ) أي تلك القواعد ( فيشِذُّ عن الصّواب ) و يقعُ في الخطأ .
هذا فيما يرتبط بفائدة و الغرض من علم المنطق .
أمّا ما هو تعريفُهُ ؟ فيقول : تعريفه اتّضح ممّا بيّنّاه في الفائدة و الغرض من علم المنطق . قال :
النصّ :
} تعريف علم المنطق : و لذلك عرّفوا علم المنطق : بأنّه ( آلةٌ قانونيّة تعصمُ مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر ) . فانظر إلى كلمة مراعاتها ، و اعرف السرّ فيها كما قَدِمْناهُ ، فليس كلّ من تعلّم المنطق عصم عن الخطأ في الفكر ، كما أنّه ليس كلّ من تعلّم النّحو عصم عن الخطأ في اللسان ، بل لا بدّ من مراعاة القواعد و ملاحظتها عند الحاجة ، ليعصم ذهنه أو لسانه { .
ــــــــــــــــــــ0
( آلةٌ ) : إنّما قال آلة ، باعتبار أنّ المصنّف ـ بعد ذلك ـ سيُشير إلى أنّ علم المنطق مرتبطٌ بباقي العلوم ، يخدِمُ باقي العلوم ، و إلاّ لو لم تكن هناك علومٌ ـ في الدنيا ـ مجهولة ، و نريد الكشفَ عن المجهولِ فيها لما احتجنا إلى علم المنطق ، إذن ، علمُ المنطق هو علمٌ لخدمة العلوم الأُخرى ، و إلاّ لو لم يكن هناك علوم أُخرى نريد أن نكشف فيها عن مجهولات فإنّنا لا نحتاجُ إلى علم المنطق . و بعبارةٍ أُخرى : لو لم يكن عند الإنسان مجهولٌ من المجهولات فإنّه لا يحتاجُ إلى علم المنطق ، فلهذا نحنُ نقولُ : أنّ في الملائكة ، في الموجودات التي لا تجهَلُ شيئاً لا يوجدُ هناك علمُ المنطق ! و السبب : لأنّ علم المنطق إنّما يوجدُ في المورد الذي يوجد فيه مجهولٌ و نريدُ الكشفَ عن ذلك المجهول لجعله معلوماً .
إذن ، هذا العلم إنّما نحتاجُ إليه في مورد وجود مجهولات عندنا ، فهو آلةٌ لها ، أمّا إذا لم تكن عندنا مجهولات فلا نحتاج إلى ذلك العلم ، بخلاف جملة من العلوم كعلم التوحيد و معارف التوحيد فإنّ علم التوحيد نحتاج إليه مطلقاً و ليس خادماً و مرتبطاً بعلمٍ آخر بل هو مقصودٌ لذاته ، و من هنا نجد أنّ العلوم تُقسّمُ قسمين : علومٌ مقصودةٌ لغيرها ، و علومٌ مقصودةٌ لذاتها ، و المنطق من العلوم المقصودة لغيره لا لذاته ؛ فلهذا قال : ( آلةٌ ) .
( قانونيّةٌ ) : إنّما عبّر عن هذه الآلة بأنّها ( قانونيّة ) باعتبار أنّها قانونٌ عامّ ، تشكّلُ كلّ حكمٍ و مسألة من أحكام و مسائل هذا العلم قانوناً كليّاً و قاعدةً كليّة تحتهاجزئيّات و مصاديق كثيرة جدّاً .
إذن ، هذه الآلة ليست جزئيّة ، و إنّما هي آلةٌ كليّة تحتها مصاديق كثيرة .
( تعصمُ ـ مراعاتها ـ الذهن عن الخطأ في الفكر ) : و لكن متى تعصم الذهنَ عن الخطأ في الفكر ؟ هل تعصمه مطلقاً أو تعصمُ الذهنَ عن الخطأ في الفكر عند مراعاة تلك القوانين و تلك القواعد التي دونّت في ذلك العلم ؟ قال : تعصم ـ مراعاتها ـ ، أي أنّ تطبيق تلك القواعد بنحوٍ صحيح هو الذي يعصم الذهنَ عن الخطأ في الفكر ، أي عن الخطأ في عمليّة التفكير ، و نحن قلنا أنّ المراد من الفكر ـ كما عرّفناه فيما سبق ـ : الوصولُ من معلومٍ تصوّريّ إلى مجهولٍ تصوّريّ ، و من معلومٍ تصديقيّ إلى مجهولٍ تصديقيّ ، و بيانه سيأتي أنّه ما هو المراد من التصوّر و ما هو المرادُ من التصديق و ذلك عندما نُقسّمُ العلمَ إلى تصديقٍ و تصوّر .
و من هنا قال :
( فانظر إلى كلمة مراعاتها ) : التي وردت في التعريف .
( و اعرف السرّ فيها كما قدِمناه ) : أي في كلمة مراعاتها .
( فليس كلّ من تعلّم المنطق عُصِمَ عن الخطأ في الفكر ) : و في عمليّة التفكير .
( كما أنّه ليس كلّ من تعلّم النحو عُصِمَ عن الخطأ في اللسان ، بل لا بدّ من مراعاة القواعد و ملاحظتها عند الحاجة ، ليعصم ذهنه أو لسانه ) : أي ليعصم ذهن المنطقيّ في التفكير ، أو لسان المنطقيّ في النُّطق . و أمّا لماذا قال : ( أنّ المنطق آلة ) ؟ فجوابه :
النصّ :
} المنطق آلة
و انظر إلى كلمة ( آلة ) في التعريف و تأمّل معناها ، فتعرف أنّ المنطق إنّما هو من قسم العلوم الآليّة التي تُستخدم لحصول غاية ، هي غير معرفة مسائل العلم ، فهو يتكفّل ببيان الطرق العامّة الصحيحة التي يُتوصّل بها الفكر إلى الحقائق المجهولة ، كما يبحث ( علم الجبر ) عن طُرُق حلّ المعادلات التي بها يتوصّل الرياضيّ إلى المجهولات الحسابيّة { .
ـــــــــــــــــ0
الشرح :
( و انظر إلى كلمة ( آلة ) في التعريف و تأمّل معناها ، فتعرف أنّ المنطق إنّما هو من قسم العلوم الآليّة ) : أي من العلوم المقصودة لغيرها لا المقصودة لذاتها ، و هذا من قبيل " علم الأُصول " فالأُخوة يعلمون : أنّنا إذا لم يكن عندنا استدلال فقهيّ فهل نحتاجُ إلى علم الأُصول أو لا نحتاجُ إلى علم الأُصول ؟ و الجواب على ذلك : أنّه من الواضح أنّه إنّما وُجِدَ علمُ الأُصول لتيسير بيان كيفيّة الاستدلال في علم الفقه ، و ما لم يكن عندنا علمُ الفقه فمن الواضح أنّنا لا نحتاجُ إلى علم الأُصول أيضاً ، و من هنا قالوا : بأنّ علم الأُصول أيضاً من العلوم الآليّة و ليست من العلوم المقصودة لذاتها .
( التي تُستخدمُ لحصول غايةٍ ) : و تلك الغاية :
( غير معرفة نفس مسائل العلم ) : إذا كانت من العلوم المقصودة لذاتها فالعلمُ إنّما يُنشأ لمعرفة مسائل ذلك العلم ، يعني " علمُ التوحيد " يُنشأ حتّى نعرف أنّ الله واحد ، و أنّ الله عالمٌ ، و أنّه قادرٌ ، و نحو ذلك ، فإذن ، إنّ العلم الآليّ ليست الغايةُ فيه معرفةُ مسائل نفس العلم ، و إنّما العلمُ الغائيّ الغاية منه ، أي علمُ المنطق الغايةُ منه هو معرفةُ غيره من العلوم بواسطته ، بخلاف العلوم غير الآليّة فإنّ المقصود فيها و الغايةُ منها هو معرفةُ مسائل نفس ذلك العلم .
( فهو ) : أي العلمُ الغائيّ .
( يتكفّلُ ببيان الطُرُق العامّة الصحيحة ) : طبعاً عندما قال ( الطرق ) فهي تشملُ أيَّ طريقٍ سواءٌ كان في العلوم الجزئيّة أو العلوم الكليّة ، و لكن عندما قال : ( العامّة ) أراد تلك الطُرُق التي تشتركُ فيها جميعُ العلوم سواءٌكان علمُ التوحيد و سواءٌ كان علم الأُصول أو علم الفقه أو الفيزياء أو الرياضيّات ، جميعاً تحتاجُ إلى هذه الطُرُق العامّة ، بخلافه هناك بعض القواعد المرتبطة ببعض العلوم دون البعض الآخر ، فأنتم إذا جئتم إلى " علم الفقه " تجدون أنّ فيه قواعد عامّة ـ أيضاً ـ و هذه القواعد العامّة هي " علمُ الأُصول " التي عبّر السيّد الشهيد عنها بـ " العناصر المشتركة في عمليّة الاستدلال الفقهي " فهذه أيضاً قواعد عامّة و لكن قواعد عامّة ليس لكلّ العلوم و إنّما من الواضح أنّها قواعد عامّة في علم الفقه فقط ، و لكنّ المنطق هو قواعد عامّة لكلّ العلوم ؛ و من هنا قيّد هذه القواعد أو الطُرُق بـ " العامّة " يعني التي يُستفاد من تلك الطرق في جميع العلوم بلا استثناء .
( التي يتوصّل بها الفكر إلى الحقائق المجهولة ) : سواءٌ كانت تلك الحقائق المجهولة " تصوّرٌ " أو كانت " تصديق " .
( كما يبحث ( علم الجبر ) عن طرق حلّ المعادلات التي بها يتوصّل الرياضيّ إلى المجهولات الحسابيّة ) : هذا التنظير في قوله ( كما يبحثُ ... ) من قبيل ما نظّرنا لكم علمُ الأُصول و علم الفقه ، فعلمُ الجبر يُشكِّلُ القواعد العامّة للرياضيّات ، قواعد عامّة في خصوص الرياضيّات ، و ليس لكلّ العلوم .
فإذن ، هذا تمثيلٌ ، و لكنّه تمثيلٌ بالأخفى ، لماذا ؟ لأنّه نحن لا نعرف أنّ الجبر ما هو حتّى نعرف نسبة الجبر إلى الرياضيّات ، فلو مثّل ـ أي الشيخ المظفّر رحمه الله تعالى ـ بمثال الأُصول و الفقه لكان أوضح عند الطالب ، لأنّ الطالب يعرف نسبة علم الأُصول إلى نسبة الفقه ، فلهذا نرى أنّ السيّد الصّدر ـ رحمةُ الله تعالى عليه ـ قال في الحلقة الأُولى : " أنّ نسبة علم الأُصول إلى علم الفقه هي نسبةُ المنطق إلى جميع العلوم ".
فإذن ، هنا قواعد عامّة ، علمُ الجبر قواعد عامّة و لكن ليس قواعد عامّة لكلّ العلوم و إنّما قواعد عامّة للرياضيّات فقط كما أنّ الأُصول قواعد عامّة و لكن ليست قواعد عامّة لكلّ العلوم بل هو قواعد عامّة لخصوص الفقه ، و أمّا المنطق فهو قواعد عامّة لكلّ العلوم .
النصّ :
} و ببيانٍ أوضح : علم المنطق يُعلّمُك القواعد العامّة للتفكير الصحيح حتّى ينتقل ذهنُك على الأفكار الصحيحة في جميع العلوم ، فيُعلّمُك على أيةّ هيئة و ترتيب فكري تنتقل من الصور الحاضرة في ذهنك إلى الأُمور الغائبة عنك ـ و لذا سمّوا هذا العلم ( الميزان ) و ( المعيار ) من الوزن و العيار ، و وسموه بأنّه ( خادمُ العلوم ) حتّى علم الجبر الذي شبّهنا هذا العلم به ، يرتكز حلّ مسائله و قضاياه عليه .
فلا بدّ لطالب هذا العلم من استعمال التمرينات لهذه الأداة و إجراء عمليّاتها في أثناء الدراسة ، شأن العلوم الرياضيّة و الطبيعيّة { .
ــــــــــــــــــــ0
الشرح :
( و ببيانٍ أوضح ) : من حيث أنّه مثّل له ـ أي لعلم المنطق ـ بأمرٍ أخفى فالآن يقول ( و ببيانٍ أوضح ) .
( علم المنطق يُعلّمُك القواعد العامّة للتفكير الصحيح حتّى ينتقل ذهنُك إلى الأفكار الصحيحة في جميع العلوم ) : دون استثناء .
( فيُعلّمك على أيّة هيئة و ترتيب فكريّ تنتقل من الصور الحاضرة في ذهنك إلى الأُمور الغائبة عنك ) : هنا يرى المصنّف أنّ المنطق يتناول و يُعلّمُك فقط الهيئة ـ الصورة ـ دون المادّة ، أي يُعلّمك الهيئة و أمّا أنّ المواد ، موادّ الهيئة و موادّ الاستدلال ، فيقول : أنّ المنطق لا يتعلّق بها و لا ينالُها ـ أي هذه الموادّ ـ ، و لكن هذا الكلام ـ أنّ المنطق يتعلّق بالهيئة دون المادّة ـ غيرُ تامِّ من المصنّف ، يعني أنّ المنطق كما يتبنّى بيان الهيئة و الصورة كذلك يتبنّى بيان المادّة أيضاً ، فالمنطق كما هو صوري أيضاً هو مادّيّ ، و هذا ـ أي تعلّق المنطق بالهيئة و المادّة معاً ـ ما يُصرّحُ به المصنّف في موردين من نفس هذا الكتاب ـ المنطق ـ يعني في صفحة ( 206 ) و في صفحة ( 279 ) من هذا الكتاب المنطق ـ على اختلاف قد يكون في الصفحات لاختلاف الطبعات ـ نجد بأنّ الماتن ـ يعني الشيخ المظفّر رحمةُ الله تعالى عليه ـ يُصرّحُ هناك يقول : تقدّم أنّ للقياس مادّة و صورة فبيّنّا الصورة و الآن يريدُ أن يدخُلَ في الباب السادس " الصناعات الخمس " إلى بيان المادّة ، و من الواضح أنّ القياس مادّةً و صورةً داخلٌ في علم المنطق .
إذن ، ما ذكره هنا من أنّ المنطق ـ فقط ـ يتبنّى الترتيب ـ المادّة ـ و الهيئة غيرُ تامٍّ ، و كذلك ما يذكرُه الشيخ الرئيس ـ رحمةُ الله تعالى عليه ـ في كتاب " النجاة " الصفحة ( 4 ) يقول : ( فالمنطق هو الصناعةُ النظريّة التي تُعرِّفُ من أيِّ الصور و الموادّ يكونُ الحدِّ الصحيح ) لا فقط الصور ما هي ؟ و إنّما الصورُ و الموادّ معاً .
إذن ، ما ذكره المصنّف هنا من أنّ المنطق يُعلّمك على أيِّ هيئةٍ و ترتيب فكري تنتقلُ من الصور الحاضرة في ذهنك إلى الأُمور الغائبة عنك ، هذا ليس تامّاً ، و طبعاً لا بدّ أن يُعلَم أنّ الشيخ المطهّري ـ رحمةُ الله تعالى عليه ـ أيضاً يذهبُ إلى أنّ علم المنطق يختصُّ ببيان الصورة لا الصورة و المادّة ، و لكن شيخنا الأُستاذ الشيخ الجوادي ـ حفظه الله ـ يقول : لا ، هذا الكلامُ غيرُ تامٍّ ، و إنّما المنطق يتعرّضُ للمادّة و الصورة معاً .
( و لذا سمَّوا هذا العلم بالميزان و المعيار من الوزن و العيار ) : هذا التعبير عن العلم بالميزان يشمُل المادّة و الصورة ، كيف ؟ الجواب : لأنّه نحتاجُ ميزان في الموادّ و نحتاج ميزان في الهيئات .
( و سمَّوه بأنّه خادمُ العلوم ) : لأنّه قلنا بأنّ المنطق يُعطي الطرائق أو الطرُق العامّة لجميع العلوم .
( حتّى علم الجبر الذي شبّهنا هذا العلم به ) : و حتّى علم الأُصول الذي شبّهنا هذا العلم به ، علم الأُصول ـ أيضاً ـ لكي تُحقّق مسائلُه يحتاج إلى علم المنطق ,
( يرتكزُ حلّ مسائله و قضاياه عليه ) : أي يرتكزُ حلّ مسائل الجبر و قضايا الجبر على علم المنطق ، و على هذا الأساس :
( لا بدّ لطالب هذا العلم من استعمال التمرينات لهذه الأداة و إجراء عمليّتها في أثناء الدراسة ، شأن العلوم الرياضيّة و الطبيعيّة ) : التي تحتاجُ إلى ممارسةٍ و تمرين حتّى تكون هذه المسائل مَلَكَة عند الإنسان ، يعني لا نكتفي بأن يتعرّف الإنسان على هذه القواعد و ينساها بل لا بدّ أن تكونَ هذه القواعد بمنزلة الملكة ، من قبيل سورة ( قل هو الله أحد ) فإنّك لا تنسىاها و عدم نسيانك لها إنّما لكون هذه السورة صارت عندك ملكة و حتّى لو تركت هذه السورة المباركة عشر سنوات ففي النتيجة أنّك تستذكرُها متى ما أردت بخلاف ما لو تحفظ بيتاً من الشعر في هذا اليوم فإنّك بعد مضيّ ثلاثة أيّام تنسى هذا البيت ، و السبب : لأنّ ذلك الحفظ لم يكن ملكةً ، كذلك نحن نحتاج في هذه العلوم لكي نستفيدَ منها أن تكونَ ملكة ، و إلاّ إذا لم تكن ملكة لا يستطيع الطالب أن يتعلّم و يستفيدَ منها ، لأنّه لا يستطيع في كلّ مسألة يقرؤها في الفلسفة أو يقرؤها في الرياضيّات أو الأُصول يُراجِع كلِّ المنطق ليرى أنّه توجد مغالطة أو لا توجد ، لا يُمكنه ذلك ؛ إذا لم تكن أُسس المغالطات ، و لم تكن قواعد البرهان و الجدل بيده و حافظُها فإنّ لا يستطيع بمجرّد أن يرى استدلالاً ما ، أن يقول هذا الاستدلال فيه مغالطة ! و مغالطته أولاً ، ثانياً ، ثالثاً ... و لا يستطيع أن يقول هذه المادّة فيها إشكال و أنّ هذه الهيئة فيها إشكال ، و إنّما يستطيع أن يقول ذلك عندما يكون علمُ المنطق ملكة ، فلهذا الأُخوة لا يتبادر إلى أذهانهم أنّهم يكتفون بمعرفة المنطق من خلال الكتاب ، يعني يتصوّر أنّه بمجرّد أن يرجِع إلى الكتاب يفهم و عندها لا حاجة له إلى أن يحفظ القواعد ، لا ، علم المنطق ليس بهذا الشكل ، فأنت لكي تكونَ رياضيّاً فهل تكتفي بمعرفة الرياضيّات من خلال الرجوع إلى كتاب أو لا بدّ أن تكون حافظاً للقواعد الرياضيّة ؟ من الواضح أنّك لا تستطيع الاستفادة من تلك القواعد إلاّ إذا حفظتها ، و بعبارةٍ أُخرى كما ـ نحن ـ نعبّر مراراً بأنّ المنطق لا بدّ أن يصير علماً متّصلاً لا علماً منفصلاً ، أي لا بدّ أن يكونَ دائماً مع الإنسان و ليس أن يكون علمُه في الكتاب متى شاء أن يرجِع إليه رجَعَ في الكتاب ، هذا العلم المنفصل علمٌ لا فائدة منه فهو قابلٌ للضياع ، أي هذا الكتاب و الحواشي الموجودة عليه بمجرّد أن يضيع من الإنسان فعلمُه أيضاً يضيع بخلاف العلم المتّصل فإنّه يبقى مع الإنسان و لا يُمكن أن يسلُبه أحدٌ من الإنسان .
إلى هنا اتّضح لنا ما هو تعريفُ العلم ، و ما هو فائدةُ هذا العلم ، و اتّضح بأنّ الإنسان لا يستطيع أن يدخُلَ في أيِّ علمٍ فقهاً، أُصولاً ، فلسفةً ، كلاماً ، تفسيراً ... إلاّ إذا كان عارفاً بمسائلِ علمِ المنطق ، أمّا إذا لم يتعرّف على هذه المسائل فيدخُل من قبيل الأعمى الذي ليست له آلة و أداة يستطيع أن يُشخِّص الصحيحَ من السقيم ، الباطلَ من الحقّ ، فلعلّه يتصوّر هذا الاستدلال تامّ و يصل إلى نتيجة تامّة و لكن في الواقع هذا الاستدلال يكون في شكله اشكال و في مادّته اشكال .
نُكتة مهمّة
ــــ0
و هي أنّه ممّا تقدّم اتّضح لنا أنّ هذا الطريق الذي اكتشفه أُرسطو في عمليّة التفكير هل هو الطريق المنحصر في عمليّة التفكير أو لا يوجد عندنا دليل على الاستقراء ؟
الجواب : من الواضح أنّه هذا الطريق اكتشفه أُرسطو للاستدلال في بعض المسائل المنطقيّة ، و لعلّ هناك طُرُق أُخرى لعمليّة التفكير ـ أيضاً ـ توصِلُ إلى نتائج صحيحة ، و هذا ما أثبته السيّدُ الشهيد ( رحمة الله تعالى عليه ) في " الأُسس المنطقيّة للاستقراء " .
المنطق الأُورسطي يبتني على أنّ القياس موصِلٌ إلى نتيجة ، و لكنّ الاستقراء هل يوصِل إلى نتيجة قطعيّة أو لا ؟ انشاء الله سيأتي أنّ الاستقراء لا يُمكن أو يُوصِل إلى نتيجة قطعيّة إن لم يكن متضمِّناً للقياس ؛ يعني الاستقراء لكي يُفسد اليقين أو يُفيد القطع لا بدّ أن يتضمّن استدلالاً قياسيّاً ، و السيّد الشهيد قال : لا ، بل يُمكن للاستقراء أن يؤدّي إلى نتيجة قطعيّة و إن لم يكن فيه قياسٌ ، و هذا معناه اكتشاف طريق آخر في عمليّة التفكير للوصول إلى المجهول من خلال المعلومات ، و بعبارةٍ واضحة : أنّ أرسطو بيّن طريقاً للوصول من المعلوم للكشف عن المجهول ، و السيّد الشهيد ( رحمة الله تعالى عليه ) بيّن طريقاً آخر و ليس أنّه نسخ الطريقَ الأوّل ، لأنّه قد يرى بعض الأُخوة أنّ السيّد الشهيد عندما كتب " الأُسس المنطقيّة " إنّما نسخ المنطق الأُورسطي فنحن بعدذلك لا نحتاج إلى منطق أُرسطو ! و نقول : أنّ الأمر ليس كذلك و إنّما السيّد الشهيد قال : أنّ هناك طريق آخر للكشف عن المجهولات ، الطريق الأول ذكره أُرسطو ، و الطريق الثاني نذكره نحن في " الأُسس المنطقيّة للاستقراء " و لعلّه بعد كذا سنة ـ أيضاً ـ يأتي منطقيٌّ آخر فيقول : ليس فقط الطريق الأول و الطريق الثاني بل يوجد هناك طريق ثالث للاستفادة من المعلومات للكشف عن أمرٍ مجهول ، و بعبارةٍ ثالثة أقولُها صريحة : أنّ هذا الطريق ليس بنحو الحصر العقليّ ـ يعني لا يوجد طريقٌ غيرُه ـ و إنّما هو من باب الاستقراء ـ الحصر الاستقرائيّ ـ يعني أنّه أنا اكتشفتُ هذا الطريق ، و أنت أيضاً تبحثُ عن طريقٍ آخر فيوصلُك إلى المقصد و هو الكشفُ عن المجهول ، فلهذا هذه النقطة يجب أن تكون واضحة في ذهن الأُخوة و هي : أنّه لا المنطق الأُورسطيّ ينسخ المنطق الاستقرائيّ و لا المنطق الاستقرائيّ ينسخ المنطق الأُورسطيّ ، و لا المنطق القياسيّ يقول : إذن لا نحتاجُ إلى الاستقراء ، و لا المنطق الاستقرائيّ يقول : إذن لا نحتاجُ إلى القياس ، بل كلٌّ يؤدِّي دورُه في دائرته الخاصّة به .
موضوع علم المنطق
ـــــــ0
من الأبحاث التي تُذكر ـ عادةً ـ في كتب المناطقة و التي لم يُشِر إليها المصنّف هو أنّ موضوعَ هذا العلم ما هو ؟ يعني ـ المصنّف ـ بيّن فائدة العلم و بيّن تعريفَ العلم ، و لكن لم يُبيّن موضوعَ هذا العلم ، فما هو المرادُ من موضوع العلم ـ علم المنطق ـ يعني ما هو ذلك المحور التي تدور مسائل ذلك العلم حول ذلك المحور ؟ فمثلاً الأُخوة يعلمون أنّه في باب التوحيد المحور هو ( الله سُبحانه و تعالى ) أي الله موجود أو غير موجود ، الله واحد أو ليس بواحد ، الله قادر أو ليس بقادر ، الله سميع أو ليس بسميع ... هذه كلُّها مسائل تدورُ حول واحدٍ و هو محور ( الله جلّ و علا ) فهذه المسائل تدورُ حول ذلك المحور ، و ذلك المحور نُسمّيه الموضوع ، وتفصيل هذا الأمر نوكله ـ إنشاء الله ـ إلى دراسات أعمق .
و لكن هل يوجد هنا ـ في علم المنطق ـ محورٌ واحدٌ تدورُ حولَه مسائلُ علم المنطق أو لا يوجد هناك محورٌ واحد ؟ و الجواب : توجد هناك أقوالٌ متعدِّدة ، و لكنّ القولَ المشهور بين المحقّقين المتأخّرين من علماء المنطق : أنّ المحور في علم المنطق هو ( التعريف ـ المعرِّف ـ و الحُجّة ـ الدليل ـ ) فالتعريف : في الأُمور التصوريّة ، و الحُجّة : في الأُمور التصديقيّة ، لأنّه أنت لا تستطيع أن تُقيم الحُجّة على شيءٍ إلاّ أن تعرفَ ذلك الشيء أولاً ، فهل تستطيع أن تُقيم الحُجّة على أنّ الماءَ موجود من غير أن تعرف ما هو الماء ؟ لا يُمكن ؛ فإذا لم أتصوّر فأنا أُقيمُ الدليل على ماذا ؟ إذن ، لا بدّ أن أتصورّهُ أولاً و هو ( المعرِّف ـ التعريف ـ ) و ثانياً أن أُقيمَ الدليلَ على وجوده و هو ( الحُجّة ) و الدليل لإثبات وجوده ، و من هنا القول المحقّق بين المتأخّرين قالوا : أنّ موضوعَ علم المنطق هو ( المعرِّف ـ التعريفُ ـُ و الحُجّة ـ الدليل ـ ) فالتعريف مرتبطٌ بالجوانب التصوريّة ، و الحُجّة مرتبطٌ بالجوانب التصديقيّة كما سنُشيرُ إليه بعد ذلك .
النصّ :
} العلم
تمهيد :
قلنا : إنّ الله تعالى خلق الإنسان مفطوراً على التفكير ، مستعدّاً لتحصيل المعارف بما أُعطي من قوّة عاقلة مفكّرة يمتازُ بها عن العجماوات . و لا بأس ببيان موطن هذا الامتياز من أقسام العلم الذي نبحثُ عنه ، مقدّمة لتعريف العلم ، و لبيان علاقة المنطق به ، فنقول : { .
ــــــــــــــــــ0
الشرح :
المصنّف هنا يدخل في بحثٍ آخر ، و هو بحثُ " العلم " أمّا لماذا دخل في بحث العلم و يحتاج إلى تعريف العلم ، باعتبار أنّه سيأتي ـ إنشاء الله ـ و أشرنا في موضوع علم المنطق أنّ موضوع علم المنطق هو المعرِّف و الحُجّة ، و قلنا أنّ التعريف مرتبطٌ بالتصّور ، و أنّ الحُجّة مرتبطٌ بالتصديق ، إذن ، نحن نريد أن نبحث عن التصوّر و التصديق ، و هذا السؤال يأتي : إذن ما هو مقسَمُ هذين القسمين ، هل هناك مقسم بينهما أو لا يوجد مقسم لهما ؟ المقسمُ لهما هو ( العلم ) فالعلم ينقسمُ إلى التصوّر و إلى التصديق ، و لكن أيُّ علمٍ ، هل مطلقُ العلم ينقسمُ إلى التصوّر و التصديق أو أنّ هناك قسماً خاصّاً من العلم ينقسمُ إلى التصوّر و التصديق ؟
الآن يجب الالتفات للمطلب ، لأنّه نحن في المنطق ماذا نريد أن نبحث ، هذا التصوّر و التصديق موضوعُه و مقسمُه ما هو ؟
الجواب : تقسيمات عديدة موجودة للعلم ، و لكنّ المرتبط بمحلِّ كلامنا هذين التقسمين :
العلم الفعليّ و العلم الإنفعاليّ
ــــــــــــ0
التقسيمُ الأول : يُقسّم العلم إلى علم ( فعليّ ) و علم ( إنفعاليّ ) .
و المراد من العلم الفعليّ : هو ذلك العلم الذي يوجَدُ قبل المعلوم .
و المراد من العلم الانفعاليّ : هو ذلك العلم الذي يوجَدُ بعد المعلوم .
مثال توضيحيّ : جنابك تعلم بهذا الكتاب قبل هذا الكتاب أو بعد هذا الكتاب ؟ من الواضح أنّ هذا الكتاب إذا لم يكن موجوداً لا يُمكن أن يحصل لك به علم إلاّ بعد وجوده ، فأنت علمُك فعليّ أو انفعاليّ ؟ أنت انفعلتَ من هذا الكتاب ، تأثّرت من هذا الكتاب فحصلَ لك علمُ أو أنت أثّرتَ في وجوده ؟ يعني بعبارةٍ واضحة : علمُك أوجدَ هذا الكتاب أو الكتاب أوجد علمك ؟ نقول : من الواضح أنّ هذا الكتاب هو الذي أوجد علمك ، فيكون بمنزلة الفاعل و ذلك العلم يكون بمنزلة القابل و المنفعل .
أمّا عندنا علوم أُخرى هي علوم فعليّة ، يعني أنّ العلمَ يوجِدُ المعلوم من قبيل المهندس ـ هذا مثال تقريبي للذهن و إلاّ هذه الأمثلة ليست هي المقصودة بالذات ، و إنّما فقط هي لتقريب المطلب إلى الأذهان فنقول : مهندس مثلاً ـ فالمهندس عندما يجلس و يرسمُ في ذهنه صورة لبناء بيت ، فهذا البيت الذي رسمه في ذهنه حتّى يبني البيت على تلك الصورة التي في ذهنه ، فهذه الصورة الموجودة في البيت هل هي مأخوذة من الخارج أو الخارج مأخوذٌ من الصورة ؟ فإذن ، تبيّن أنّ هذا العلم مأخوذٌ من الخارج أو الخارج أُخِذَ منه و تُرتّب على أساس العلم ، أيٌّ منهما ؟ و هذا العلم نسمّيه " علمٌ فعليّ " و ليس " علمٌ انفعاليّ " و أمّا لماذا قسّمنا هذا التقسيم ؟ نقول : حتّى نقول أنّ علم الله سبحانه و تعالى ليس علماً انفعاليّاً و إنّما علمه علمٌ فعليّ ، يعني خلق عالمَ الإنسان على الصورة العلميّة الموجودة عنده ، و ليس أنّ الله سبحانه و تعالى بعد أن أوجدَ عالمَ الإنسان لم يكن يعلم به ثمّ حصلت له صور في ذهنه عمّا خلقه !!
إذن ، أولاً هذا التقسيم الذي نذكره للعلم أنّه تصوّرٌ و تصديق إنّما مقسَمه هو العلمُ الإنفعاليّ لا العلم الفعليّ ، من قبيل علم الحقّ سُبحانه و تعالى قبل إيجاد الأشياء لأنّه الله يعلمُ بالأشياء قبل إيجادها ، إذن ، علمه تعالى ليس مأخوذاً من الخارج و إنّما الخارجُ وجِدَ على أساس علمه سُبحانه و تعالى .
إذن ، هذا الذي نبحثُه هنا من أنّ العلمَ إمّا تصوّرٌ و إمّا تصديق ، المراد من العلم هنا العلمُ الانفعاليّ في قبال العلم الفعليّ . هذا أولاً ، و هذا التقسيم لم يُشِر إليه المصنّف رحمةُ الله تعالى عليه، و ثانياً :
العلم الحضوريّ و العلم الحصوليّ
ــــــــــــ0
التقسيم الثاني للعلم : و هو الذي أشار إليه المصنّف ، و هو أنّ العلم قد يكونُ علماً حضوريّاً و قد يكونُ علماً حصوليّاً .
العلم الحضوريّ و العلم الحصوليّ قسمان من العلم ، و بينهما فروقٌ كثيرة ، و لكي نُبيّن الفروق أضرب أمثلة للإخوة و من خلال الأمثلة أصِل إلى النتائج الكليّة .
أمثلة :
أنتم عندما تتألّمون ، سواءٌ كان هذا التألّم منشأه الضرب بسكين أو من جرّاء حريقٍ في بناءٍ ما أو بأيّ سببٍ آخر ، فأنت الآن متألّم ، يوجد عندك ألم ، و هذا الألم الموجود عندك هل هو نفس الألم موجود عندك أو أنّ هذا الألم إنّما هو صورة من الألم موجودة عندك ؟ من الواضح إذا كان الألم الذي عندك هو صورة من الألم فإنّ وضعك ـ من الواضح ـ يكون مثلَ الطبيب ، فالطبين عندما تذهب إليه و تقول له بأنّ يدك مجروحة ، فالطبيب عنده صورة الألم ، لأنّه إذا لم تكن لدى الطبيب صورة الألم و الجرح المترتّب عليه فإنّه لا يستطيع أن يُعطيك الدواء المناسب ، لأنّ الطبيب وظيفته أنّك تشرح له صورة الجرح و عندما تُبيّن له الجرح فإنّه يعرف الألم المترتّب على الجرح ، فأنت ترى بعذ الأطباء عندما تذهب إليه يقول لك : الألم بهذا الشكل أو بهذا الشكل ، و هذا معناه أنّ الطبيب يتصوّر الألم و لكن هل الطبيب عندما يتصوّر الألم يتألّم أم لا ؟ قطعاً لا يتألّم ، لماذا ؟ لأنّه توجد عند الطبيب صورة الألم ، و لكن أنت صاحب الألم إنّما عندك الالم نفسه لا صورة الألم، فهذا وجود الألم نُسمّيه " علم حضوريّ " ، و الصورة الموجودة عند الطبيب عن هذا الواقع الوجودي ، عن هذا الألم الموجود عند " زيدٍ " نُسمّيه " علم حصوليّ " ؛ و العلم الحصوليّ و العلم الحضوريّ قد يجتمعان في شخصٍ واحد .
مثال اجتماع العلم الحصوليّ و العلم الحضوريّ في شخصٍ واحد
ــــــــــــــــــــــــــ0
الآن أنت متألِّم ثمّ يذهب منك الألم بعد أن يُعطيك الطبيب الدواء ، فصورة الألم أنت تستطيع أن تحتفظ بها ، بعد أخذ الدواء لا يوجد عندك ألم ، و لكن صورة الألم ما زالت محفوظة عندك ، فمرّةً الإنسان يشرب أو يذوق العسل ، فذوقُه للعسل و إحساسُه بالحلاوة معناه أنّه عنده صورة من الحلاوة أو نفس الحلاوة ؟ نقول : عند التذوّق عنده نفس الحلاوة ، و أُخرى لا ، انتهى هو من تذوّق و شرب العسل فلا يوجد عسل ، فالآن هو يستطيع أن يتصوّر صورة الحلاوة و العسل أو لا يستطيع أن يتصور ؟ يستطيع أن يتصوّر ؛ فالأول نُسمّيه " علم حضوريّ " و هذا الثاني نُسمّيه " علم حصوليّ " .
مثال ثالث أوضح : الطفل عندما ينام و ينتابه إحساسٌ بأنّ دماً يخرُج من يده ، أو ينتابه إحساسٌ بألم الجوع ، فهذا الطفل لديه إحساس بالألم و إلاّ إذا لم يكن لديه إحساسٌ بالألم من جرّاء خروج الدم من يده أو الألم من الجوع فإنّه لا يبكي ، و لكن لو قلت لهذا الطفل و لنفرض أنّ عمره كان ستة أو ثلاثة أشهر : هذا ألم و هذا جوع ، فهو لا يفهم ماذا هو الجوع و ماذا هو الألم ، و لكن في نفس الوقت هذا الطفل لديه إحساسٌ بالألم و الجوع ! فمن هنا يُمكن أن ينفكّ العلم الحصوليّ عن العلم الحضوريّ ، بمعنى أنّه يوجد علم حضوريّ ـ و هو وجود الألم ـ و لكن العلم الحصوليّ بالألم قد يكون موجوداً و قد لا يكون موجوداً ؛ و من هنا اتّضح لنا :
أولاً / أنّ العلم الحضوريّ شيءٌ و العلمُ الحصوليّ شيءٌ آخر .
و ثانياً / أنّهما متلازمان في الوجود أو أنّ أحدهما ينفكُّ عن الآخر ، يعني إذا وُجِدَ العلمُ الحضوريّ لا بدّ أن يوجَدَ العلم الحصوليّ أو لا يُشتَرَطُ ذلك ؟ نقول : لا يُشتِرَطُ ذلك ، لأنّه قد يوجدُ علمٌ حضوريّ و لا يوجدُ علمٌ حصول ، و من حقّك أن تسألني سؤال و تقول : سيّدنا هل يُمكن أن يوجد علمٌ حصوليّ و لا يوجد علمٌ حضوريّ ؟ هذا السؤال جوابُه موكولٌ ـ إنشاء الله ـ إلى الدراسات الفلسفيّة العميقة المطلب ، و هو أنّه عرفنا أنّه يُمكن أن يوجد علم حضوريّ من دون وجود علم حصوليّ و لكن هل يُمكن أن يوجد علم حصوليّ من دون وجودعلم حضوريّ أو لا يُكمن ؟ نقول : السيّد الطبْطبائيّ ـ رحمةُ الله تعالى عليه ـ صاحبُ " الميزان " يقول : لا يُعقَل ، إذا وُجِدَ علمٌ حصوليّ فلا بدّ أن يوجَدَ علمٌ حضوريّ قبل ذلك ، و هذا الكلام خارجٌ هنا عن كلامنا و إنّما المهمّ النتيجة التي وصلنا إليها : من أنّ العلم حضوريٌّ و حصوليّ أولاً ، و ثانياً : أنّ الحصوليّ قد ينفكُّ عن الحضوريّ و ليس أنّه قد ينفكُّ أحدهما عن الآخر ، أي أنّ التعبير بـ ( قد ينفكُّ أحدهما عن الآخر ) هو تعبير مغلوط لا يصحّ القول به ، و إنّما الذي يجب أن يُكتب هو هذا التعبير : ( أنّ العلم الحصوليّ قد ينفكُّ عن العلم الحضوريّ و لا ينفكُّ الحضوريّ عن الحصوليّ ) .
الآن لو أردنا أن نُبيّن خصائص هذين القسمين ، فما هما خصائصهما ؟
خصائص العلم الحضوريّ و العلم الحصوليّ
ــــــــــــــــ0
الخصوصيّة الأولى : أنّه في العلم الحضوري ، أنت يوجدُ عندك نفسُ وجود الشيء و ليس صورةُ الشيء ، يعني وجود نفس الألم و ليس وجود صورة الألم ، فإذا كان نفس الألم موجود فآثار الألم أيضاً موجودة ، و آثار الألم من قبيل الصراخ و الصياح و العويل و نحو ذلك ، بخلافه في العلم الحصوليّ فأنت في العلم الحصوليّ إنّما عندك صورة الشيء حاصلة و ليس نفس وجود الشيء حاصلٌ و في هذه الحال إذا كانت صورة الشيء موجودة فإنّه لا تكون آثار الشيء موجودة ، يعني مرّةً أنت ( النار ) حاصلةٌ عندك ، يعني يدك في النار فإذا كانت يدك في النار فمعنى ذلك أنّ نفس وجود النار حاصلة في يدك ـ لأنّ يدك تحترق بالنار ـ لا أنّ صورة وجود النار حاصلة في يدك ، و إذا كان الأمر كذلك ـ وجود النار حاصلٌ في يدك ـ فإنّ آثار النار موجودة و الآثار هو ( الإحراق لليد ) ، و مرّةً أُخرى أنّ الحاصل ليس هو وجود النار و إنّما صورةُ النار حاصلة ، و إذا كان الأمر كذلك ـ صورةُ النار حاصلة لا نفس النار ـ فإنّ الآثار ـ الإحراق ـ غير موجودة ، لأنّه الأثر للوجود لا للصورة المأخوذة عن ذلك الوجود ، و من هنا أنت أذا تصوّرت النار لا تحترق ، و أيضاً إذا تصوّرت الكافر أو الفاسق لا تكون كافراً و لا فاسقاً ، ( لأنّ تصوّرك للكافر و الفاسق إنّما هو صورة من الكافر و الفاسق حصلت في الذهن لانفس الكفر و الفسق في الواقع الوجودي للكافر و الفاسق ) نعم إذا كان الكافرُ أو الفاسقُ عندك تكون كافراً أو فاسقاً ، إذا كانت النارُ عندك فتكون محرقة لأنّ آثارها عندك .
إذن الفرق الأول الأساسي بين الحضوريّ و الحصوليّ : أنّ الحضوريَّ بوجوده موجودٌ و حاضرٌ عند العالم ، و أنّ الحصوليَّ بصورةٍ مأخوذةٍ منه حاضرٌ عند العالم ,هذا الفرقُ الأول .
الفرقُ الثاني : في العلم الحضوري ، الوجود الذهني ـ يعني الصورة ـ و الوجود العينيّ ـ يعني الوجود الخارجي ـ فالوجود الذهنيّ و الوجود العينيّ هذين في العلم الحضوريّ شيءٌ واحد لا اثنين ، لأنّه لا يوجدُ عندنا صورة و وجود خارجيّ و إنّما الذي عندنا في العلم الحضوريّ هو الوجودُ الخارجي فقط ، و أمّا في العلم الحصوليّ فيختلفُ الأمر فإنّه هناك ـ في العلم الحصوليّ ـ اثنينيّة بين الصورة و بين الواقع الخارجيّ ، و من هنا يحصل الخطأ ، لأنّ هذه الصورة قد تُطابق الواقع الخارجي و قد لا تطابق الواقع الخارجي ، و أمّا في العلم الحضوريّ فإنّه لا يُعقَلُ الخطأ ، لأنّه في العلم الحضوريّ لا اثنينيّة بين الصورة و الواقع الخارجي و إنّما الموجود هو أنّ الوجود إمّا حاصلٌ و إمّا غير حاصل ، فإذا كان موجوداً فهو حاصلٌ و لا يخطأ الإنسان ، و إذا لم يكن موجوداً فإنّه لا يوجد شيء حتّى يخطأ أو لا يخطأ .
الفرق الثالث : إذن ، يتّضح الفرق الثالث بين الحضوريّ و الحصوليّ : أنّ الحضوريّ لا معنى للخطأ فيه ، و لكنّ الحصوليّ فيه صحيحٌ و خطأ ؛ و من هنا نحن احتجنا إلى علم المنطق حتّى يُصحِّحَ لنا هذا الخطأ ، و من أصبح يتبيّن شيئاً فشيئاً أنّ ( علم المنطق ) إنّما مجراه في العلم الحصوليّ و لا علاقة له بالعلم الحضوريّ .
و هناك فروق أُخرى و هي ـ إنشاء الله تعالى ـ موكولة إلى دراسات أعمق ,
ممّا تقدّم يتّضِحُ لنا : أنّ التقسيم الذي يقول أنّ العلم إمّا تصوّرٌ و إمّا تصديق يُتَوصّل من معلومٍ إلى مجهول تصديقاً تصوّراً ، هذه تكون أقسام العلم الحصوليّ .
إذن ، قولُ المصنّف ( العلم ) هذا هنا كان ينبغي للمصنّف أن يُقيّده بقيدين :
التقييدُ الأول : العلمُ الإنفعاليّ في قبال العلم الفعليّ .
التقييدُ الثاني : العلمُ الحصوليّ في قبال العلم الحضوريّ .
هذا التقييد الثاني يظهرُ أنّ المصنّف استدركه في الحاشية ، قال : ( المبحوثُ عنه هنا هو العلمُ المعبّر عنه في لسان الفلاسفة بالعلم الحصوليّ ) ، أمّا ـ مع الأسف ـ أنّ الأوّل لم يُبيّنه و إن كان في الشرح بنحو الإجمال موجود ، و لكن كان ينبغي أن يذكره .
تذييل على ما لم يذكره المصنّف :
هذه طبيعة في الفصول و هي : أنّه أنت لا بدّ أن تعنون الفصل بالمطالب التي تريد أن تبرهن عليها تحت ذلك الفصل ، أي أنت ماذا تريد أن تبيّن في ذلك الفصل ، هل تريد أن تبيّن تحت ذلك الفصل أنّ العلمَ إنفعاليّ لا فعليّ و أنّه حصوليٌّ لا حضوريّ ، فإذن ، لا بدّ أن تقول : ( العلم الحصوليّ الإنفعاليّ ينقسم إلى كذا و كذاُ ) يعني هذا العنوان و من ثمّ تبيّن له المطلب .
شرح الغامض من حاشية الشيخ المظفّر عن ( العلم ) :
نص الحاشيةّ :
} المبحوث عنه هنا هو العلم المعبّر عنه في لسان الفلاسفة بالعلم " الحصوليّ " . أمّا العلم " الحضوريّ " ـكعلم النفس بذاتها و بصفاتها القائمة بذاتها و بأفعالها و أحكامها و أحاديثها النفسيّة ، و كعلم الله تعالى بنفسه و بمخلوقاته ـ فلا تدخل فيه الأبحاث الآتية في الكتاب ، لأنّه ليس حصوله للعالم بارتسام صورة المعلوم في نفسه ، بل بحضور نفس المعلوم بوجوده الخارجيّ العينيّ للعالم ، فإنّ الواحد منّا يجدُ من نفسه أنّه يعلم بنفسه و شؤونها و يُدركها حقّ الإدراك ، و لكن لا بانتقاش صورها ، و إنّما الشيء الموجود هو حاضرٌ لذاته دائماً بنفس وجودها ، و كذا المخلوقات حاضرة لخالقها بنفس وجودها . فيكون الفرق بين الحصوليّ و الحضوريّ :
1- أنّ الحصوليّ هو حضور صورة المعلوم لدى العالم ، و الحضوريّ هو حضور نفس المعلوم لدى العالم .
2- أنّ المعلوم بالعلم الحصوليّ وجوده العلميّ غير وجوده العينيّ ، و أنّ المعلوم بالعلم الحضوريّ وجوده العلميّ عين وجوده العينيّ .
3- أنّ الحصوليّ هو الذي ينقسم إلى التصوّر و التصديق ، و الحضوريّ لا ينقسم إلى التصوّر و التصديق { .
ــــــــــــــــــ0
شرح الحاشية :
( كعلم النفس بذاتها ) : هذا ( علم النفس بذاتها ) ليس هو الذي تقول : أنا موجودٌ هو علم حضوري و إنّما (علم النفس بذاتها : أنا موجودٌ ) هذا علم حصوليّ ، لأنّ هذا ( أنا موجودٌ ) مأخوذٌ من ذلك العلم الحضوريّ ، فلا يحدث منشأ توهّم أنّه أنا عندما أقول ( أنا موجودٌ ) يعني هذا علم حضوريّ ! لا ، ليس هذا علم حضوريّ ، و إنّما هذا ـ أنا موجودٌ ـ هو علم حصوليّ مأخوذ من العلم الحضوريّ ، أي مأخوذ من علم النفس بذاتها ، من قبيل أن تقول : ( أنا متألّمٌ ) فقولك ( أنا متألّمٌ ) هو علم حصوليّ ، لأنّ الحضوريّ هو نفس التألّم الحاضر عندك ، و ليس ( أنا متألّمٌ ) هو العلم الحضوريّ و إنّما هو حصولٌ من ذلك العلم الحضوريّ ؛ فهذه ( أنا متألّمٌ ) قد تخطأُ فيها .
( أنا عطشانٌ ) ـ التفتوا جيّداً ـ : هذه ( أنا عطشانٌ ) علم حصوليّ ، و الشاهد على ذلك هو : لعلّه أنت غير عطشان و إنّما أنت جائع فيشتبه عليك الأمر فتتصوّر أنّك عطشان بينما أنت جائع ، فعندما يأتون لك بالماء باعتبار أنّك عطشان ترى أنّك ليس بعطشان و لكنّه أنت جائع فاختلط عليك الأمر، لشدّة الجوع أنت تقول ( أنا عطشان ) و هذا ممكنٌ وروده ، فهذا معناه أنّ هذا ، قولك ( أنا عطشان ) هو علم حصوليّ ، لأنّ العلم الحصوليّ يحتمِلُ الخطأ و الصحّة ، و أمّا العلم الحضوريّ فلا مجال فيه للخطأ .
إذن ، فهذه ( كعلم النفس بذاتها ) و علم الإنسان بنفسه ، هذه ليس المراد منها و معناها ( أنا موجودٌ ، أنا متألّمٌ ، أنا فرحانٌ ، أنا ، أنا ... ) فهذه جُمل " الأنا " ليست علوم حضوريّة و إنّما هي علوم حصوليّة مأخوذة من تلك العلوم الحضوريّة ، و قد تُطابقُها و قد تُخطِأُ فيه ، يعني قد تكون مطابقة للواقع و قد تكون مخالفة للواقع .
إذن تعبير المصنّف ( كعلم النفس بذاتها و بصفاتها القائمة بذاتها و بأفعالها و أحكامها و أحاديثها النفسيّة ) فـ ( أنا مريدٌ ) هذا ليس علم حضوري بل حصولي ، نعم ، نفسُ الإرادة هي علم حضوريّ ، أنت عندما تشتاقُ إلى شيءٍ ، هذا الإشتياق إلى الشيء هو العلم الحضوريّ بالإرادة ، و أمّا عندما تقول : ( أنا مريدٌ لشيء كذاٍ ) فهذا علم حصوليّ لا حضوريّ ؛ و هذا الإشتباه كثيراً ما يقع ، فيتصوّر البعض أنّنا عندما نقول ( أنا موجودٌ ، أنا مريدٌ ، أنا متألّمٌ ... ) أنّ هذه كلّها علوم حضوريّة ، فنقول : لا ، هذه ليست علوم حضوريّة و إنّما هي علوم حصوليّة .
( و كعلم الله تعالى بنفسه و بمخلوقاته ـ فلا تدخل الأبحاث الآتية في الكتاب ) : أي من الآن فصاعداً سيكون حديثنا في العلم الحصوليّ ، أي كلّ المنطق و كلّ الفلسفة و كلّ الكلام ، هذه كلُّها علوم حصوليّة و لا علاقة لها بالعلم الحضوريّ .
( لأنّه ليس حصوله ) : أي العلم الحضوريّ .
( فإنّ الواحد منّا يجد من نفسه أنّه يعلم بنفسه ... ) : أي ليس ( أنا عالمٌ بنفسي ) لأنّه هذا ليس علماً حصوليّاً ، فأنت ترى أنّ العبارات موهِمَة بأنّه علم حضوري بينما هذا ليس علم حضوري بل حصولي .
( و لكن لا بانتقاش صورها ) : أي و لكن يعلمها لا بانتقاش صورها .
( و إنّما الشيء الموجود هو حاضرٌ لذاته بنفس وجوده ) : فالغفلة ـ إذن ـ في العلم الحضوريّ غير معقولة ، لأنّه نفس الحضور ، نعم ، في العلم الحصوليّ أنت قد تغفل ، فلا تدري أنّك متألّم ، فعندما تُصاب رجلك بجرح فأنت تارةً تعلم أنّ رجلك مجروحة و أُخرى لا تعلم ، فهذه ( لا تعلم ) لا تعني أنّ الألم ليس بموجود ، بل هو موجود و إنّما أنت غيرُ ملتفتٍ إلى ذلك الألم .
أقول : و بعد أن يقرأ السيّد " حفظه الله تعالى " الحاشية و ينتهي من تعداد الفروق التي ذكرها الشيخ المظفّر ـ رحمةُ الله تعالى عليه ـ يُضيف عليها فرقاً رابعاً ، فيقول :
و رابعاً : أنّه لا يقعُ الخطأ في الحضوريّ و يقعُ في الحصوليّ .
و خامساً : بأنّ الغفلة في الحضوريّ غيرُ معقول و لكن في الحصوليّ معقول .
و تتمّة الكلام تأتي إنشاء الله ، و الحمدُ لله ربّ العالمين .
المدير العام- Admin
-
عدد المساهمات : 501
نقاط : 2147483647
عضو مميز : 1
تاريخ التسجيل : 09/02/2010
العمر : 44
مواضيع مماثلة
» دروس في علم المنطق ـ المحاضرة الرابعة
» دروس في علم المنطق ـ المحاضرة السادسة
» دروس في علم المنطق ـ المحاضرة الأولى
» دروس في علم المنطق ـ المحاضرة السادسة
» دروس في علم المنطق ـ المحاضرة الأولى
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء يوليو 08, 2014 6:16 pm من طرف السيد عبد الحسين الاعرجي
» زواج المتعة
الأربعاء فبراير 09, 2011 11:07 am من طرف حسين
» الى من يهمه الامر
الخميس نوفمبر 18, 2010 2:26 am من طرف احمد علي حسين العلي
» جبل يضع البيض في الصين
الأربعاء نوفمبر 10, 2010 9:31 am من طرف زائر
» لى من يهمه الامر
الأربعاء نوفمبر 03, 2010 9:30 am من طرف سمير محمود الطائي
» زرقاء اليما مه
الأربعاء سبتمبر 29, 2010 5:17 am من طرف سمير محمود الطائي
» الأخت المؤ منه ومشا كل العصر
الثلاثاء سبتمبر 28, 2010 1:59 am من طرف سمير محمود الطائي
» أعجوبة صورة الضحى
الثلاثاء سبتمبر 28, 2010 1:48 am من طرف سمير محمود الطائي
» با لحسين معا دلتي موزونه
الإثنين سبتمبر 27, 2010 6:30 pm من طرف سمير محمود الطائي