مواضيع مماثلة
لائحة المساحات الإعلانية
لإضافة إعلاناتكم الرجاء
مراسلتنا على البريد الإلكتروني التالي
بحـث
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 81 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 81 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 242 بتاريخ الأحد ديسمبر 01, 2013 9:22 am
احصائيات
هذا المنتدى يتوفر على 57 عُضو.آخر عُضو مُسجل هو yaasaay فمرحباً به.
أعضاؤنا قدموا 563 مساهمة في هذا المنتدى في 551 موضوع
تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
المدير العام | ||||
عاشقة الزهراء | ||||
سمير محمود الطائي | ||||
قدوتي زينب ع | ||||
الغضب الصدري | ||||
Aorn | ||||
يا صاحب الزمان | ||||
حسين | ||||
احمد علي حسين العلي | ||||
السيد عبد الحسين الاعرجي |
دروس في علم المنطق ـ المحاضرة الأولى
صفحة 1 من اصل 1
دروس في علم المنطق ـ المحاضرة الأولى
نبتدأ بإذن الله تعالى في شرح هذا الكتاب و هو كتاب " المنطق " للعلاّمة الشيخ المظفّر ( رحمة الله تعالى عليه ) ، لكنّه نحاول بإذن الله تعالى في كلّ يوم و قبل الدخول في البحث بقراءة رواية تيمّناً و تبرّكاً من هذه الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت ( عليهم أفضل الصّلاة و السّلام ) و التعليق عليها فقط من باب التذكّر ( وذكِّر إن نفعت الذِّكرى ) .
الرواية عن النبيّ ( صلّى الله عليه و آله و سلّم ) :
قال النبيّ ( صلّى الله عليه و آله و سلّم ) :
" يا أبا ذر الجلوس :ُ ساعةً عند مذاكرة العلم أحبُّ إلى الله من قيام ألفِ ركعة ، و الجلوسُ ساعةً عند مذاكرة العلم أحبُّ إلى الله من ألفِ غزوة و قراءةِ القرآن كلّه ، قال يا رسول الله : مذاكرة العلم خيرٌ من قراءة القرآن كلّه ؟ ! فقال رسول الله ( صلّى الله عليه و آله و سلّم ) : يا أبا ذر الجلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحبّ إلى الله من قراءة القرآن كلّه إثنيْ عشرَ ألف مرّة " .
طبعاً مراراً نحن ذكرنا للإخوة في هذه الأبحاث بأنّ العلم بلا عمل لا قيمة له في مدرسة أهل البيت ( عليهم أفضل الصّلاة و السّلام ) .
العلم الذي يُعطيه الرّسول و الأئمّة هذه القيمة له هو ذلك العلم الذي نتيجته الخشية من الله سبحانه و تعالى " إنّما يخشى الله من عباده العلماء " فلا تتصوّر بأنّ حفظ الإصطلاح له كلُّ هذه القيمة .
أبو ذر عندما تعجّب أن يكون مذاكرة العلم أفضل من قراءة القرآن مرّة واحدة ، الرّسول ( صلّى الله عليه و آله و سلّم ) بيّن له أكثر من ذلك فقال له : ليس مرّة واحدة بل إثني عشر ألف مرّة " عليكم بمذاكرة العلم " الآن يتبيّن لماذا أنّه أفضل من قراءة القرآن إثني عشر ألف مرّة .
" بالعلم تعرفون الحلال و الحرام " الإنسان يقرأ القرآن و لا يعرف الحلال و الحرام فما فائدة هذه القراءة ، صحيح أنّه يُحصِّل على هذه القراءة الثواب من الله تعالى و لكن إذا كان لا يعرف الحلال و الحرام فما قيمة معرفة أو قراءة القرآن .
" يا أبا ذر ساعة عند مذاكرة العلم خيرٌ لك من عبادة سنة صيام نهارها و قيام ليلها ، و النظر إلى وجه العالم خيرٌ لك من عتق ألف رقبة " .
هذه الرواية ينقلها في " جامع الأخبار " الصفحة ( 44 ) في الفصل العشرين .
نأتي إلى محلّ كلامنا .
قال :
النصّ:
} الحاجة إلى المنطق {
ــــــــــــ0
الشرح:
تمهيد
يقول العلاّمة السيّد كمال الحيدري ( حفظه الله تعالى ) : في نظري قبل الدخول في البحث عن المنطق لا بأس بالإشارة إلى بعض النكات ، و هي :
من الواضح عند الأُخوة أو لعلّ أنّ كثيراً منهم سمع بأنّ هذا العلم ـ و هو ما يًسمّى في أيدينا أو ما هو المعروف بيننا بـ " علم المنطق " ـ هو علمٌ مستوردٌ من الخارج و ليس علم مولّدٌ في الداخل إن صحّ التعبير ، أي ليس علمٌ توليديّ ولّده فكر علماء المسلمين و إنّما هو علمُ أُستُورِدَ من الخارج ، جاءنا من الفكر اليونانيّ و بالخصوص جاءنا من " أرسطوطاليس " و قد ترجم هذا المنطق إلينا " حُنين بن إسحاق " ، هناك ترجمات كثيرة موجودة للمنطق اليونانيّ و لكن أدقُّ تلك الترجمات كما يقول أهلُ الخبرة هي الترجمة التي قام بها حُنين بن إسحاق.
من هو أرسطوطاليس؟
من هنا لا بأس أن نُشير و لو بنحو الإجمال ـ إن شاء الله حتّى أنّ الطالب يكون على بيّنة ـ إلى أنّه من هو أرسطوطاليس أولاً ، و ثانياً : أنّه هل هو واضعٌ لعلم المنطق أو هو مؤلّف علم المنطق ، و ثالثاً : ما هي قيمته في الروايات الواردة عندنا ، يعني قيمة هذا الإنسان " آرسطوطاليس "؟
في الروايات الواردة عندنا و في كلمات الأعلام من الفلاسفة و المناطقة بأنه هذا ـ أرسطوطاليس ـ الذي يأتي على الألسنة كثيراً ، في المنطق ، في الفلسفة ، في الطبيعيّات ، في الإلهيّات ؛ من هو هذا الإنسان ؟
في مقام الجواب على هذا السؤال لا بد أن نشير إلى بعض النكات :
في الصفحة ( 62 ) من كتاب " شرح المنظومة " لأُستاذنا الشيخ حسن زاده آمليّ في الجزء الأول " شرح منطق المنظومة " ـ باعتبار أنّ الشيخ له شرح على منطق المنظومة و هو الجزء الأول من " شرح المنظومة " و هو الذي ننقل عنه هنا ، و شرح على حكمة و فلسفة المنظومة ، و هو الجزء الثاني من " شرح المنظومة " ـ .
هناك في الصفحة ( 62 ) ، يقول بأنّ حياة هذا الإنسان كانت قبل ، أو تولّدُه كان في سنة ثلاثمائة و أربعة و ثمانين قبل الميلاد و عاش حدود الإثنين أو ثلاث و ستين سنة و توفي سنة ثلاثمائة و إثنين و عشرين قبل الميلاد .
ينقل هذا المطلب في " شرح المنظومة " عن الشهرستاني في كتاب " الملل و النِّحَل " يقول : هو " نيقوماخوس " و هو المقدّم المشهور ، و هو المعلّم الأول و الحكيم الفاضل المطلق عندهم و إنّما ولِد في أول سنة من أزدشير إبن دارا في الفُرس ، فلما أتت عليه سبعة عشرة سنة أسلمه أبوه إلى أفلاطون و مكث عند إفلاطون نيِّف و عشرين سنة ؛ فهو تلميذ لأفلاطون بحدود عشرين سنة أو أكثر ، و إنّما سمّوه " المعلّم الأول " لأنّه واضعُ التعاليم المنطقيّة ، أي باعتبار أنّه وضع التعاليم المنطقيّة و مُخرجُها من القوّة إلى الفعل و حُكمُهُ حكمُ واضعِ النّحو و العروض ؛ فإنّ نسبة المنطق إلى المعاني التي في الذهن هي نسبة النحو إلى الكلام ، و العروض إلى الشعر ، كيف أنه نحن نحتاج إلى النحو و العروض في الشعر فلا يُمكننا بلا نحو و لا عروض ـ و هو الذي وضعه الفراهيدي ـ لمعرفة الشعر كذلك لا يُمكننا أن نتعرّف على المعاني إلاّ بالمنطق ، الآن هذا المقدار كافٍ .
إذن هو ولادته سنة ثلاثمائةو أربعة و ثمانين قبل الميلاد و وفاته سنة ثلاثمائة و إثنين و عشرين قبل الميلاد ، في حدود إثنتي و عشرين أو ثلاثين أي عمره ثلاث و ستين سنة .
ما هو موقع هذا الرجل في الروايات عندنا ، هل له ذكرٌ أو ليس له ذكرٌ في الروايات ؟
في كتاب " محبوب القلوب " للدليميّ ـ و هو من علمائنا ـ ينقل شيخنا الأُستاذ الشيخ حسن زاده هذا المطلب عن كتاب " محبوب القلوب " للدليميّ . التفتوا للرواية ـ طبعاً أنا لست بصدد بيان أنّ هذا المطلب صحيح أو ليس بصحيح و إنّما فقط لبيان قيمة هذا الرجل في الروايات الواردة عندنا ـ قال : جاء في الأثر أنّ أرسطوطاليس كما في " محبوب القلوب " للدليمي قال يُروى ـ أي يقول الدليمي في هذا الكتاب ـ أنّ عمرو بن العاص قدِمَ من الإسكندريّة على سيّدنا رسول الله ( صلّى الله عليه و آله و سلّم ) فسأله ـ أي الرسول سأل عمرو بن العاص ـ عمّا رأى في الإسكندريّة في مصر ، قال : رأيتُ قوماً يُطلِّسون و يجتمعون حلقاً و يذكرون رجلاً يُقالُ له أُرسطوطاليس لعنه الله ، فقال ( صلوات الله و تسليماته عليه و آله ) : مهْ يا عمرو ، إنّ أُرسطوطاليس كان نبيّاً فجهله قومُه " ثم قال الدليميّ : إلى آخره .
الآن هذه الرواية نحن لا نتكلّم في سندها ، في متنها ، صحيحة أو غير صحيحة ، الآن أنا لستُ بصدد هذا ، و لكن فقط أُريد أن أُبيِّن هذا المطلب .
ثمّ الديلميّ في " محبوب القلوب " قال : أقول و المؤيِّد لهذه الرواية ما نقل السيّدُ الطاهر ذو المناقب و المفاخر رضيُّ الدين عليّ بن طاووس في كتابه " فرج المهموم في معرفة الحلال و الحرام من علم النجوم " بأنّ أبرخس و بطلَمْيوس و آخرين كانا من الأنبياء ، هذه الأسماء أسماء الأنبياء و لكنّها لمّا كانت أسماء يونانيّة فنحن لم نستطع أن نُطبِّقُها على الأسماء الموجودة عندنا في القرآن فتصوّرنا أنّ تلك الأسماء هم أشخاص و هؤلاء الذين يقول عنهم القرآن هم أشخاص أُخَر ، و لعلّه أحدهما منطبقٌ على الآخر ، و كذلك ورد في كلام الإمام الصّادق ( عليه أفضل الصّلاة و السّلام ) في " توحيد المفضَّل " هناك عندما يتكلّم الإمام مع المفضَّل بن عمرٍ الجُعفيّ و يُبيِّن له الدليل لإثبات وجود الله سُبحانه و تعالى عن طريق الإتقان و الصُّنع لنظام العالم ، يقول : و كان لهم ـ أي لليونانيّين ـ رجلٌ اسمه أُرسطوطاليس أثبت لهم وجود الله سُبحانه و تعالى عن طريق المحرِّك الأوّل .
إذن ، إسمُ هذا الإنسان أيضاً جاء على لسان الإمام الصّادق ( عليه أفضل الصّلاة و السّلام ) و هذا يكفي أُرسطو مفخرةً و هو أن يأتي إسمه على لسان الإمام الصّادق ( عليه أفضل الصّلاة و السّلام ) .
طبعاً ، كلُّ هذا الذي قلت إنّما قلتهُ ليس بصدد الإثبات و لا بصدد النفي ، فأنا الآن لست بصدد أن أقول أنّ أُرسطو نبيٌّ أو ليس بنبيّ ، و إنّما فقط أُريد أن أُبيِّن منزلةَ هذا الرّجل في الروايات الواردة عندنا .
أمّا فيما يرتبطُ بأقوال المحقِّقين ، فأقوال المحقِّقين كثيرة ، من إبن مسكويه إلى إبن خُلدون إلى الشيخ الرئيس إلى .. إلى .. ، كثير من الكبار يُعظِّمون هذا الرجل تعظيماً لا حدَّ له ، و لكنّ السؤالَ المطروح هنا و هو : أنّ أُرسطوطاليس هل هو واضعُ علم المنطق ، يعني هل أنّ علم المنطق لم يكن قبله ، أو أنّه هو المدوّنُ و المؤلِّف و المرتِّب لعلم المنطق ، يعني قبله لم يكن علمُ المنطقِ مرتَّباً و إنّما رُتِّبَ في زمن أُرسطوطاليس ؟
من الكلمات أنتم تسمعون من هنا و هناك يُعبَّر عن أُرسطوطاليس بأنّه واضع المنطق مع أنّ أُرسطوطاليس هو و غيره من المحقّقين يقولون بأننا ، يقول بأنّه لستُ أنا الواضعُ لعلم المنطق و إنّما أنا المؤلّفُ في علم المنطق و إلاّ فالمنطقُ كان موجوداً قبلي و لكن لم يكن مرتّباً بهذا الترتيب الذي وجِد في زمانه .
الآن أُنظروا إلى هذه العبارة ، و هي : أنّ الشيخَ الرئيس ( رحمة الله تعالى عليه ) في آخر " منطق الشِّفاء " ينقل هذا المطلب عن نفس أُرسطو ، يقول : قال أُرسطو : " إنّا ما ورثنا عمّن تقدّمنا في الأقيسة إلاّ ضوابط غير مفصّلة " إذن ، تبيّن أنّ ما ورثه أُرسطو كان له هناك قياس و لكن لم توضع له ضابطة واضحة مفصّلة تبيّن العقيم مِنْ المنتج ، كما سيأتي ذلك في بيان الأقيسة ، و يتابع الشيخ الرئيس قول أُرسطو : " و أمّا تفصيلُ الأقيسة و إفرادُ كلِّ قياسٍ بشروطه و ضروبه و تميّز المنتج عن العقيم إلى غير ذلك من الأحكام فهو أمرٌ قد كددنا فيه أنفسنا و أسهرنا أعيننا حتّى استقام على هذا الأمر الذي تجدون ، فإن وقع ... " ثمّ يوصي للذين يأتون بعده ، يعلم أنّه عندما هو واضع و مؤلفٌ لهذا العلم ، أي أولُ مؤلّفٍ ، إذن لا يُمكن أن يكونَ العلمُ على أوجه و كماله ، بل يكون في أول بدوه ، و من هنا يكون من قبيل الطفل الذي لم ينضُج ، لم يبلُغ ، لم يصل إلى الكمال المطلوب له ، يوصي أنّ الذين يأتون بعده عليهم أن يُكمّلوا هذا العلم ، يقول : " فإن وقع لأحدٍ ممّن يأتي بعدنا فيه زيادة أو إصلاح فليُصلحه أو خلل فليسدّه " .
إذن ، الرجل لا يدّعي بأنّه جاء بهذا العلم على كماله المطلوب ، و من هنا أنت تجد أنّ هذا العلم و هو " علم المنطق " الذي بدأ تأليفه على يد أُرسطو أصابه كمالٌ كثير إلى أن وصل إلى يد الشيخ الرئيس و عندما وصل إلى يد الشيخ الرئيس و هو أبو علي بن سينا ، هذا الإنسان وصل بالمنطق الأُرسطي إلى أوْجِه فكتب " منطق الشفاء " الذي يعادل أضعاف ما كتبه أُرسطو في " المنطق " .
شهادة الشيخ الرئيس أبو عليّ بن سينا في حقّ أُرسطوطاليس :
ـــــــــــــــــــــــــ0
و لكن هذا نفس إبن سينا الذي كتب في هذا المنطق هذا المقدار و أوصل هذا العلم إلى أوْجِه ،ِ أُنظروا ماذا يقول في حقّ الرجل ، ماذا يقول في حقّ أُرسطو ، يقول : فقال الشيخ : ( " أُنظروا معاشر المتعلّمين ـ الآن هو قال ـ أي أُرسطو ـ : " فإن وقع لأحدٍ ممّن يأتي بعدنا فيه زيادة أو إصلاح فليُصلحه " ـ هل أتى أحدٌ بعده زاد عليه شيئاً ، أي هل أنّ أحداً قال شيئاً و لم يقله أُرسطوطاليس ـ أو أظهر فيه قصوراً أو أخذ عليه مأخذاً مع طول المدّة و بُعد العهد " ) فالمسافة ليست يوم أو يومين و إنّما المسافة بين أُرسطوطاليس و بين الشيخ الرئيس هي مسافة طويلة جدّاً لعلّها تصل إلى عشرة أو إثنا عشرَ قرناً ( 1200 أو 1300 سنة ) و لكن مع ذلك لم يأتي أحدٌ بجديدٍ عليه ( "بل كان ما ذكره هو التامّ الكامل و الميزان الصحيح و الحق الصريحّ " ) هذه الشهادة لإنسان محقّق و أُستاذ في الفن و ليست هي شهادة لإنسان عطّار أو بقّال ، شهادة من إنسان كتب أوسع دورة في الدولة الإسلامية ، أوسع دورة في المنطق و هو " منطق الشفاء " الذي يقع في أربع مجلّدات من الشفاء البالغ عشرة مجلّدات .
هذه شهادة الشيخ الرئيس في حقّ أُرسطوطاليس .
شهادة إبن خُلدون في حقّ أُرسطوطاليس :
ــــــــــــــــ0
و أمّا شهادة إبن خلدون ، فإنه يقول : ( إنّ الإسان لمّا خلق الله له الفكر الذي يُدركُ به ـ إلى أن يقول ـ و تكلّم فيه المتقدّمون أول ما تكلّموا به جُملاً جُملا و متفرِّقاً و لم تُهذّب طُرُقُه ، و لم تُجمع مسائله حتّى ظهر في يُونان ( أُورسطو ) .
إذن ، تبيّن أنّ ( المنطق ) قبل أًُرسطو كان موجوداً في اليونان إلاّ أنّه لم يكن مهذّباً ، لم يكن منقّحاً ، لم يكن مؤلّفاً بالطريقة التي نجدها الآن .
( فهذّب مباحثه و رتّب مسائله و فصوله و جعله أول العلوم الحكميّة و فاتحها ) ، إذن ، من يُريد أن يدخل العلوم الحكميّة ، الفلسفيّة ، الكلاميّة ، بل في زماننا إذا أراد أن يدخل إلى الفقه ، و الأُصول فإنّه لا يُمكنه أن يدخلها بغير معرفةٍ للمنطق كما سنُبيّن ـ إنشاء الله بعد ذلك ـ و لذا يُسمّى بالمعلَّم الأول و كتابه المخصوص يُسمّى بـ (المنطق ) و أيضاً يُسمّى بـ (النصّ ) و نحو ذلك .
إذن ، فيما يرتبط بهذا العلم إتّضح لنا بأنّ هذا العلم أولاً : هو مستوردٌ من اليونان و ليس متولّدٌ من فكر علماء المسلمين ، و ثانياً : إتّضح لنا بأنّ أُرسطوطاليس ليس هو الواضعُ للمنطق بل هو المهذِّب و المؤلِّف في المنطق و إلاّ فالمنطق كان موجوداً قبله و لكن لم يكن بهذا الكمال الذي وصل على يد أُرسطوطاليس .
من هنا لا بدّ أن نقف متأمِّلين عند هذا المنطق لنرى أنّ هذه القوانين و أنّ هذا العلم الذي جاءنا من فكرٍ آخر ـ لأنّ الفكر اليونانيّ فكرٌ له أُصوله و له قواعده و له إتجاهاتُه المختلفة عن الفكر الإسلاميّ الذي جاء به القرآن و رواية أهل البيت عليهم أفضل الصّلاة و السّلام ـ لنرى أنّ هذا الفكر الذي جاءنا من هناك هل يُمكن أن نقبله ضمن إطارنا الفكريّ أو لا ينبغي لنا ذلك ، بل ينبغي أن نطرده عن إطارنا الفكريّ لأنه جسمٌ غريبٌ علينا و الجسم الغريب لا مجال له في هذا الجسم الإسلاميّ ، فهل أنّ الفكر المنطقي ، علمُ المنطق هو من الأجسام الغريبة التي دخلت الفكر الإسلاميّ أو أنّ الفكر المنطقيّ و علمُ المنطق الذي دخل إلينا إنسجم مع الفكر الإسلاميّ بل و خدم الفكر الإسلاميّ أيضاً ؟
هذا ما نُريد أن نبحثه ـ إنشاء الله ـ بالمقدار الممكن في هذا الكتاب و هو " علمُ المنطق " ضمن عدّة مطالب :
المطلب الأول : لنرى أننا نحتاجُ إليه أو لا نحتاج إليه ؟ نؤمنُ به مطلقاً أو نرفضه مطلقاً أو من المفصّلين أي نؤمن بالبعض و نرفض البعض الآخر ؟ هذا مطلبٌ .
المطلب الثانيّ : و هو أنّه لا بدّ أن تعلموا بأنه في الفترة الأخيرة ، نوقِش المنطق الأُورسطيّ من قبل الفكر الغربيّ مناقشة حادّة جداً و خصوضاً على يد أمثال " ديغول " الإنكليزي و على يد أمثال " ديكارت " الفرنسيّ ؛ فهؤلاء هاجموا المنطق الأُورسطيّ هجوماً عنيفاً جداً بنحوِ وصفوه ـ طبعاً هاجموه جميعاً و ليس هاجموا جزءاً منه ـ و عبّروا عنه بأنه باطلٌ و غير مفيدٍ ، عبّروا عنه بتعبيراتٍ مختلفة لإسقاط هذا المنطق عن الفكر الذي يحكمهم ، و هذا حدث قبل ثلاثة أو أربعة قرون ، و لكن في الفترات الأخيرة خفّ هذا الهجوم عن وطأته السابقة و بدأوا يفكّرون بشكلٍ أدقّ لا بالشكل الرافض للمنطق الأُورسطيّ جملةً و تفصيلاً .
فهنا ما هي وظيفتنا ؟ هل أننا أيضاً نرفض المنطق الأُورسطيّ رفضاً مطلقاً كما فعلع بعضِ الغربيّين أو نقبله قَبولاً مطلقاً كما يحاول البعض أن يدّعي أنّ كلّ ما قاله فهو صحيحٌ كما ذكر الشيخ الرئيس ـ رحمةُ الله تعالى عليه ـ فقال : " هو الحقُّ الصحيح الذي لا يوجد غيرُه " أو لا بدّ أن نُحقّق فيه لنرى الصحيح من الخطأ ؟
طبعاً ، هذه النُكتة لا بدّ أن تكون واضحة ، هذا المطلب الثاني .
المطلب الثالث : سنُشير إليه عندما نوضّح وظيفة النطق ما هي .
إذا اتّضحت هاتين المقدِّمتين نأتي إلى محلّ الكلام : و هو أولاً : ما هو المراد من " المنطق " ، و ما هو تعريفُ المنطق ؟
طبعاً ، عندما نقولُ " تعريفُ علم المنطق " ـ الآن نحن لسنا بصدد أن نُبيّن أن هذا التعريف هل هو تعريفٌ حدّي ، تعريفٌ رسمي ، جنس ، خاصّ ، خاصّة ، عرض عام ، عرض خاصّ ، هذه تفصيلات و شروط التعريف ستأتي في هذا المنطق ـ إنما نريد أن نعرف أنه نحن نريد أن نبحث عن ماذا فقط ، و ليس مرادي من تعريف " علم المنطق " هنا يعني ( جنس و فصل و حدٌّ تام أو حدٌّ ناقص و رسمٌ تامّ أو رسمٌ ناقص ) و إنما كلُّ هدفي أن نُبيّن أنّ هذا العلم الذي نُريد أن ندرسه ما هو هذا العلم ؟ نبحث عن ماذا ، فهل هذا العلم المسمّى بعلم المنطق مرتبطٌ بعلم الرياضيّات أو مرتبطٌ بعلم الكلام ، أو مرتبطٌ بالطبيعيّات ؟ أي بأي علمٍ من العلوم مرتبط علمُ المنطق ؟
إذا عندما نقول : " تعريفُ علم المنطق " ليس مرادنا الشرائط التي تُذكر للتعريف في نفس هذا العلم التي سيأتي ـ إنشاء الله ـ في باب " التعريف و المعرِّف " .
مقدِّمة في بيان تعريفُ " علم المنطق "
ــــــــــــــ0
ماهو تعريف : علم المنطق " ؟
في مقام الجواب عن هذا السؤال لا بدّ أننا نحتاج إلى مقدِّمة مؤدّاها : أنّ الله ـ سُبحانه و تعالى ـ خلق الإنسان محبّاً لكماله , و باحثاً عن كماله ، و هذه من الأُمور الفطريّةالتي خُلِقَ الإنسانُ عليها ، و أشرنا إلى هذا البحث في النحو المناسب في أبحاثنا الكلاميّة ، و نحن هناك ـ أي في أبحاثنا الكلاميّة ـ بيّنا أنّ هذه من الأُمور التي فُطِرَ عليها الإنسان ، لا أقول كلّ موجود باعتبار أنّ الموجودات الأُخرى كلّ واحدة لها حكمها الخاصّ ، نحن الآن نتكلّم عن أنفسنا كأُناس ، الإنسان خُلِقَ مفطوراً على حُبّ الكمال ، فما معنى حُبّ الكمال ؟
معنى حُبّ الكمال :
ـــــــ0
معنى حبّ الكمال : يعني يُريدُ و يُحبُّ تلك الأشياء التي تُلائمُ ذاته و يتنفّرُ عن تلك الأُمور التي تتنافرُ مع ذاته ؛ هذا هو حبُّ الكمال و الفِرارُ من النّار .
سؤال : هل خُلِق الإنسان و هو واجدٌ لكلّ كمال أو خُلِقَ الإنسانُ و هو لا يملِكُ أيَّ كمال ، أيٌّ منهما؟
الجواب : من الواضح أنّ الإنسان لم يُخلَق و هو واجدٌ لكلّ كمالٍ و إلاّ لو كان واجداً لكلّ كمالٍ فإنه لا معنى لأنْ يطلُب الكمال ، و من هنا نحن نقول في الله ـ سُبحانه و تعالى ـ أنّه لا يطلُبُ أيَّ كمال ، لماذا ؟ الجواب : لأنه ـ تعالى ـ واجدٌ لكلّ كمال .
مثال توضيحيّ : أنت عندما يوجد في جيبك ( ألف دينار ) فهل أنت تبحثُ عن ( ألف دينار ) آخر ؟ نعم إذا كنت تبحث عن ( الألف الثانية ) أي أنّك إذا كنت تُريد ( ألفين دينار ) لا ( ألف دينار ) فإنك في هذه الحال تبحثُ عن ( الألف الثانية ) ، أمّا لو كنت أنت تكتفي بـ ( ألف دينار ) و في جيبك يوجد ( ألف دينار ) فمن الواضح أنك عندها لا تبحث عن ( دينارٍ واحد ) زيادةً عما ترى أنك تستكفي بوجوده عندك و هو ( الألف دينار ) و السبب هو : لأنّك واجدٌ لذلك الشىء الذي تُريدُه فتعتبر وجوده كمالٌ لك ، و الإنسان لم يُخلَق واجداً لكلّ كمالٍ بل هو مخلوقٌ و هو فاقدٌ لأكثر الكمالات ، نعم يملِك بعض الكمالات و واحدة من هذه الكمالات أنّه يبحثُ عن الكمال ، و بحث الإنسان عن الكمال هو كمالٌ في الإنسان لا أنّه نقصٌ في الإنسان ، فهو فاقدٌ لأكثر الكمالات .
و من هنا فالإنسان باحثٌ عن الكمال ، هاربٌ من النّار و هذا ما يوجِدُ عنده غريزة حبّ الإطّلاع الموجودة عند كلّ إنسان ، و هذه الغريزة منشأها ذلك الأمر الفطريّ الموجود في الإنسان و هو الحبُّ للكمال و الهروبُ من النّار ، فيُحِبُّ أن يطّلع ، أمّا لماذا يُحِبُّ أن يطّلع ؟ فنقول : ليرى أنّ ذلك الذي إطّلعَ عليه هل هو مفيدٌ لكماله فيطلِبُه و يُحِصّلِهُ ، و إذا كان الذي إطّلع عليه لا يُفيدُ كمالَه بل يؤدّي إلى نقصه حتّى يتجنّبَه و يهرُبَ منه ، و من هنا توجدُ في وجود الإنسان غريزةُ حبّ الإطّلاع .
و من هنا يأتي هذا السؤال ، و هو : أنّ هذا الإنسان هل كُشِفَ له كلُّ شىء أو أنّ بعضَ الأُمور مكشوفة و أمّا المجهولات فلا عدَّ لها و لا حصر ، أيٌّ منهما ؟
من الواضح أنّ الجواب هو الثاني ، و هو أنّ الإنسان كُشِفَت له بعضُ الأُمور التي يحتاج إليها كأداة أوليّة للبحثِ عن المجهول و لكنّه أكثرُ الأُمور إن لم نَقُلْ الغالب ، إن لم نَقُلْ تمامها إلاّ القليل فإنّها مجهولةٌ عنده ، فإذا صارت مجهولة و يوجَدُ عنده حبُّ الإطِّلاع الناشيءِ من حُبِّ الكمال فإنّه عند ذلك يُريد التعرّف على تلك المجهولات .
و من هنا فهو طالبٌ للكشف عن كلِّ مجهولٍ يُصادِفُه في حياته ، و كلّ مجهولٍ يُصادفه في حياته فهو طالبٌ للكشفِ عنه بنحوٍ يستطيعُ أن يُفكّرَ و أن يستدِلَّ للكشفِ عن المجهول ، أي عنده معلومات ـ و نحن قلنا بعض الأُمور معلومة له و إنشاء الله ستأتي هذه المعلومات ما هي ، و كم عددُها ، موجودة في فطرةِ كلِّ إنسان أو غير موجودة ، إنشاء الله عندما ندخل في أبحاث القياس و البرهان ، هناك سنُبيّن أنّ هذه الأُمور المعلومة ـ يعني غير الإكتسابيّة ـ أي الأُمور التي نُعبّر عنها بـ ( البديهيّة ) أو ( الضروريّة ) هذه الأُمور ما هي عددُها ، و هل تعتبر الأُمور الأوليّة لهذا الإنسان الباحثِ عن المجهول للكشفِ عنها ؟
و هذه من مختصّات الإنسان و هو : أنه توجدُ عنده معلومات ، توجدُ عنده مجهولات ، يستطيعُ من خلال تلك المعلومات أن يصِلَ للكشفِ عن تلك المجهولات ، و هذه هي خاصّة التفكير أو خاصّة الفكر .
طبعاً نحن لا نعلم أنّ الحيوانات أيضاً عندها هذه القدرة و هي قدرة الكشف عن المجهول أو لا توجد عندها هذه القدرة للكشف عن المجهول ، يعني أنّ الحيوان أيضاً عنده مجهول و بالإستدلال يكتشف ذلك المجهول أو أنّ الحيوان غير الإنسان من الموجدات الحيّة هل أنها أيضاً لها كمالات و بالإستدلال تصلُ إليها أو أنّ كلّ كمالاتها موجودة لها من الحين الأول ؟
الجواب : المحققون يقولون: بأنّ الحيوانات كلّ ما لها من الكمال الله سُبحانه و تعالى يرزقها من الإبتداء ، يعني لا يوجد عندها شىءٌ اكتسابي بخلاف الإنسان فإنه توجد عنده أمور يكتسبها ، بخلاف هذه النملة أو بخلاف زنبور العسل فإنه مذ يخرجُ من بطن أُمّه يعرف النظام الكاملَ الذي يحكم عالم النمل ، فلا يحتاج أبداً أن يذهب إلى مدرسة و يتعلّم و يأخذ ، و إنما الله سُبحانه و تعالى خلقه بهذا الشكل و هو أنه واجدٌ لكلّ الكمالات التي يحتاجها .
إذن لا أقلّ : نحن نعلم أنّ الإنسان زُوِّد بالفِكر و زُوِّد بالقدرة على الاستدلال ؛ أمّا ما هو الفِكر ؟ تفصيله سيأتي ـ إنشاء الله ـ في أول بحث " القياس " .
الفِكر : قالوا هو : ترتيب أُمورٍ معلومة للوصول إلى الكشف عن مجهولٍ .
هذا الترتيب ـ في الأُمور المعلومة للوصول إلى الكشف عن أمرٍ مجهول ـ في المقدِّمات التي ذكرناها ، هذه نُسميها " عمليّةُ التفكير " و " عمليّةُ الاستدلال " ، و لكن و هو أنّ الإنسان الذي يريد أن يستفيد من هذه المعلومات الموجودة عنده ليكشف عن مجهولٍ من المجهولات ، هنا يأتي عليه سؤالان :
السؤال الأول : و هو أنه كيف يُرتّب هذه المعلومات حتّى تكشف له عن مجهول ، هل بأيِّ نحوٍ رتّبها تكشف عن المجهول أو لا بدّ أن يُرتّبها بنحوٍ خاصّ حتّى تكشف عن المجهول ؟
السؤال الثاني : و هو أنّ أيّ معلومٍ يكشفُ عن أيّ مجهول أو أنّ هناك ارتباطاً خاصّاً بين بعض المعلومات و بعض المجهولات ، أيٌّ منهما ؟
من الواضح ، الجواب هو الثاني ، و من هنا " المنطق " يحاول أن يجيب إمّا على السؤالين معاً و إمّا على سؤالٍ واحد من السؤالين و السؤال الثاني لا نعلم أنه من يُجيبُ عليه ـ الآن أُبيّن لماذا أنّ " المنطق " يتبنّى السؤالين أو يتبنّى سؤالاً واحدا .
عودٌ إلى السؤالين :
ـــــــ0
السؤال الأول ، هو : أنّه كيف يُرتّب المعلومات ـ أي أنه توجد عنده معلومات و نحن قلنا بعد ذلك سنُبيّن ما هي هذه المعلومات التي يملكها الإنسانُ بلا اكتساب ، أي هي المعلومات الضروريّة و البديهيّة ، فهذه المعلومات غير مكتسبة من الخارج و إنما موجودةٌ عنده ، و أمّا كيف تكون هذه المعلومات موجودة عند الإنسان فذلك أيضاً بحثٌ سيأتي في محلّه ، و أنا فقط من باب الاستذكار و الإشارة أُشير فأقول : كيف توجد هذه ، يعني خُلِق الإنسان و هذه المعلومات معه أو أنه لم يُخلَق و هذه المعلومات معه ؟ أيضاً نحن سنُشير إلى هذا البحث ـ إنشاء الله ـ في محلّه .
المهمّ أنه توجد عند الإنسان بعض المعلومات ، و هذه المعلومات كيف يُرتّبها للوصول إلى أمرٍ مجهول ، هل كيفما رتّبها توصِل أو لا ؟
مثال توضيحيّ : يقول ـ مثلاً ـ : ( سُقراطٌ عالمٌ ) ، ( سُقراطٌ إنسانٌ ) فيكون إذن : ( كلُّ إنسانٍ عالمٌ ) و هذه ليست صحيحة ، لأنه ثمّ ماذا ؟ و إذا كان سقراط إنسانٌ ؟! ، و إذا كان سقراطٌ عالمٌ ؟! فإنّ ذلك لا يُعطينا نتيجة : ( أنّ كلّ إنسانٍ عالمٌ ) ، فهذا الاشتباه أين ، هل هو في المعلومات ؟ لا ، في المعلومات لا يوجد اشتباه ، لأنه سقراط إنسان و سقراط أيضاً عالم ، فإذن ، الاشتباه في المادّة الأوليّة غير موجود ، و إنما الاشتباه موجود في ترتيب هذه المادّة للوصول إلى الكشف عن مجهولٍ من المجهولات .
إذن هنا الموادّ ، موادّ البناء ـ إذا أردنا فرضاً أنّ نمثّل العلم ، يعني العلوم بالبناء ـ سالمة و ليس فيها عيب ، و لكن ترتيبُ البناء بنحوٍ يخرج هذا الجدار بدل أن يكون مستقيماً ، عمودياً فإنه يخرج مائلاً فلا يُعطي الغرض المطلوب .
إذن ، تارةً : أنّ الذهنَ الإنسانيّ الذي يُريد أن يستدلّ يخطأُ في المادّة أو في الهيئة ـ أي في الترتيب ـ ؟
فهو هنا قد أخطأ في الترتيب ، و المادّة سالمة من كلِّ عيبٍ ، لا يوجد فيها أيُّ عيب ، لأنّه عنده ( سقراطٌ إنسانٌ ) و ( سقراطٌ عالمٌ ) كلتا المادّتين صحيحتين و مطابقة للواقع أيضاً ، لأن سُقراط ـ واقعاً ـ عالمٌ ، و سُقراط أيضاً ـ واقعاً ـ إنسانٌ ، و لكن لماذا ـ إذن ـ لا يُعطي نتيجة : (كلُّ إنسانٍ عالمٌ ) ؟ فنقول : لأنّ هذا الترتيب الموجود بين هذه الموادّ و المعلومات لم يكن الترتيبَ الصحيح لإعطاء هذه النتيجة المطلوبة .
و أُخرى : أنّ الذهن البشريّ لا يُخطىءُ في " الترتيب " و إنّما يُخطِىءُ في " نفس الموادّ " ، أي الموادّ تكون معيبة و ناقصة و أمّا الترتيب فصحيح ، فمثلاً : ( سقراطٌ إنسانٌ ) و ( كلُّ إنسانٍ ظالمٌ ) فالنتيجة : ( سقراطٌ ظالمٌ ) فهل هذا صحيحٌ أم باطل ؟ نقول : ذلك باطلٌ ، و لكنّ أيّ منهما الباطل هل الخطأ في الترتيب ؟ فنقول : لا ، فالصغرى موجودة ، و الحدّ الأوسط مكرّر ، و لكنّ العيب أين ؟ العيب إنّما هو في مادّة البناء ، أي في الموادّ خاطئة ، نحن لا نقبل منكم ! و من أين تقولون أنتم بأنّه ( كلّ إنسانٍ ظالمٌ ) ، هذه المعلومة ( و كلّ إنسانٍ ظالمٌ ) من أين أنتم أتيتم بها ؟ نحن نقول أنّ هذه باطلة و الصحيح هو أنّه ( بعض الإنسان ظالمٌ ) .
إذن ، ( و كلّ إنسانٍ ظالمٌ ) لا يُعطي نتيجة ، لأنّها باطلة ، إذ ليس ( كلّ إنسانٍ ظالمٌ ) و إنّما ( بعض الإنسان ظالمٌ ) .
إذن ، تارةً أنّ الفكر الإنساني يخطأ في " الهيئة " مع أنّ " الموادّ " صحيحة ؛ و أُخرى يخطأُ في " المادّة " مع أنّ " الهيئة " صحيحة ، طبعاً من الواضح أنه : و قد يخطأُ فيهما معاً هيئةً و مادّةً ، ممكنٌ ذلك أيضاً و سيأتي ـ إنشاءالله ـ تفصيله .
سؤال : المنطق جاء ليؤدّي أيّ وظيفة ؟ فهل جاء " المنطق " ليقوِّم " الهيئة " يعني الخطأ في " الترتيب " و الخطأ في " المادّة " أو جاء " المنطق " و دوِّنَ " المنطق " ليُجِيبَ عن الخطأ في " الهيئة " لا عن الخطأ في " المادّة " فالخطأ في " المادّة " له مجالٌ آخر ، خلافٌ في المسألة ؟
الجواب : الماتن ، المصنّف ، الشيخ المظفّر ـ رحمة الله تعالى عليه ـ يظهر من عبارته أنّه يُريد أن يقول : أنّ المنطق ـ فقط ـ يُجيب عن السؤال فيما يرتبط بالخطأ في الهيئة و الترتيب ، أمّا الخطأُ في المادّة فهذا لا علاقة له بالمنطق ، و من هنا تجدون أنّ المنطق الأُورسطيّ يُسمّى بـ " المنطق الصُّوري " و السبب : لأنّه يتعلّق بالجانب الصُّوري و الهيئة و الترتيب و لا علاقة له بالمنطق المادّي ـ أنّ المادّة صحيحةٌ أو هي خاطئة ـ هذا قولٌ و جملةٌ من المحقّقين على هذا القول .
و قولٌ آخر ، يقول : لا ، من قال لكم بأنّ المنطق يختصُّ بالإجابة على الخطأ في الترتيب بل يُجيبُ على السؤالين معاً ، سؤال الخطأ و الإشتباه في الترتيب و سؤال الخطأ و الإشتباه في الموادّ ، و هذا ما يأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ عندما نتكلّم في مقدِّمات البُرهان ، فإنّه هناك عندما نتكلّم في مقدِّمات البرهان سنُشير إلى المادّة أنّ هذه المعلومات لا بدّ ما هي خصائصُها ؟ و إنشاء الله في أول بحث القياس أيضاً سنُشير إلى هذه المسألة مرّة ثانية لنُبيّن للأُخوة بأنّ الحقّ مع الاتجاه الأول الذي يرى أنّ " المنطق " يتبنّى الصورة ، الترتيب ، الهيئة دون المادّة أو أنّ " المنطق : يتبنّاهما معاً أي الهيئة و المادّة معاً ؟! .
النصّ :
} المدخل
الحاجة إلى المنطق
خلق الله الإنسان مفطوراً على النطق ، و جعل اللسان آلة ينطق بها ، و لكن ـ مع ذلك ـ يحتاج إلى ما يُقوّم نُطقه و يُصلِحه ليكون كلامه على طبق اللغة التي يتعلّمها ، من ناحية هيئات الألفاظ و موادّها ، فيحتاج :
أولاً : إلى المدرّب الذي يعوّده على ممارستها .
و ثانياً : إلى قانون يرجع إليه يعصم لسانه عن الخطأ . و ذلك هو النحو و الصرف .
و كذلك خلق الله الإنسان مفطوراً على التفكير بمامنحه من قوّة عاقلة مفكرة ، لا كالعجماوات . و لكن ـ مع ذلك ـ نجده كثير الخطأ في أفكاره ، فيحسب ما ليس بعلّةٍ علّة ، و ما ليس بنتيجةٍ لأفكاره نتيجة ، و ما ليس ببرهانٍ برهاناً ، و قد يعتقد بأمرٍ فاسدٍ أو صحيحٍ من مقدِّماتٍ فاسدة ... و هكذا فهو ـ إذن ـ بحاجة إلى ما يُصحّح أفكاره و يُرشده إلى طريق الاستنتاج الصّحيح ، و يُدرّبه على تنظيم أفكاره و تعديلها { .
ـــــــــــــــــــ0
الشرح :
( خلق الله الإنسان مفطوراً على النطق ) : البحث في أنّه هل المراد من النُّطق هو كيفيّة التكلّم ، يعني القدرة على الكلام ، أو أنّ المراد من النُّطق أنّ الإنسان مدركٌ للكليّات ؟ بحثُه ـ إن شاء الله ـ موكولٌ إلى " علم الفلسفة " لا علاقة له هنا .
المهمّ ، خلق الله الإنسان مفطوراً على النُّطق ، يعني توجدُ فيه قابليّة التكلّم ، يعني هذه القابليّة للتكلّم غير موجودة في باقي الحيوانات ؟ الظاهر من هذا الكلام أنّ هذه القابليّة غير موجودة في باقي الحيوانات .
( و جعل اللسان آلة ينطِقُ بها ، و لكن ـ مع ذلك ـ يحتاج إلى ما يقوّم نُطقه ) : هذه الإشارة ـ فقط ـ للتشبيه ، أي يُريد أن يُبيّن أنّ الاحتياج إلى لمنطق من قبيل الاحتياج إلى النّحو عندما تُريد أن تتكلّم بالنّحو العربيّ الفصيح الصحيح .
( و يُصلحه ليكون كلامه على طبق اللغة التي يتعلّمها ) : و من هنا تجد أنّ المحقّقين قالوا : أنّ المنطق الأُورسطي هو ( نحو اللغة اليونانيّة ) و أنّ النّحو العربي هو ( منطق اللغة العربيّة ) و السبب : باعتبار أنّها قريبة الواحدة من الأُخرى ، و لكن واحدة منها و هي " اللغة و النّحو " تقوّم الألفاظ ، و المنطق يقوّم و يُنظّم المعاني التي تحكي عنها تلك الألفاظ .
( من ناحية هيئات الألفاظ و موادّها ، فيحتاج :
أولاً : إلى المدرّب الذي يعوّده على ممارستها ) : أي ممارسة تلك الألفاظ .
( و ثانياً : إلى قانون يرجع إليه يعصم لسانه عن الخطأ . و ذلك هم النحو و الصرف ) : أي يعصم لسانه عن الخطأ في كيفيّة الاستفادة ، و ذلك القانون الذي يعصمه يتمثّل في علمي النحو و الصرف .
( و كذلك خلق الله الإنسان مفطوراً على التفكير ) : فيما سبق بيّنّا المراد من التفكير ما هو ؟ حيث قلنا : أنّ المراد من التفكير هو : الذهاب من أُمور معلومة للكشف عن أُمورٍ مجهولة ، و هي التي تُسمّى بعملية " الفكر و التفكير " .
( بما منحه من قوّةٍ ) : من وجودٍ .
( عاقلةٍ مفكرّة ، لا كالعجماوات ) : و هي الحيوانات الأُخرى التي يدّعي المصنّف بأنّه لا توجدُ فيها قدرة التفكير .
( و لكن ـ مع ذلك ـ نجده كثير الخطأ في أفكاره ) : و معنى " كثيرُ الخطأ في أفكاره " يعني في بعض الأحيان يأخذُ نتائج ليست من المقدِّمات المؤدية إلى تلك النتائج ، هذا الخطأ الذي يقع في الفكر إمّا منشأه الخطأ في الموادّ و إمّا منشأه الخطأ في الترتيب الذي لا يُشير و استغنى المصنّف عن الإشارة إليه .
( فيحسب ما ليس بعلّةً علّة ) : أنت كثيراً من الأحيان تتصوّر أنّ هذا الوضع الذي أصابك علّته ـ مثلاً ـ نُعاق الغراب الذي نعق اليوم عندك ، فتقول : لولا هذا الغراب لما صار الذي هو كائنٌ بي الآن ، مع أنّه ـ واقعاً ـ هذا الغراب المسكين الذي نَعَقَ صباحاً ، ليس لنعيقه أي أثر في أن يكون وضعك هذا الذي أنت فيه
أو بعض الأحيان ـ أنتم ترون بعض الناس عندما تتكلّم معه يقول : أنا واقعاً لا حظّ لي فيتصوّر بأنّه لو كان له حظّ كان وضعه أفضل من الوضع الذي هو فيه ، فإذن ، يُرجِع الأمر الذي حدث فيه إلى عدم وجود الحظّ مع أنّه يحسَبُ الشيء الذي ليس بعلّة أنّه هو علّة ما حصل له ، و هذا منشأه الخطأ في التفكير و الخطأ في الاستدلال ، و إلاّ لو كان يعرف أن يستدلّ جيّداً لما وصل إلى هذه النتيجة : " إنّا وجدنا آباءنا على أُمّةٍ و إنّا على آثارهم مقتدون " و القرآن الكريم يستنكر عليهم هذا الاقتداء ، فيقول : لو كان لهؤلاء منطق و استدلال صحيح لما قالوا لنا : " إنّا وجدنا آباءنا على أُمّةْ ... " .
( و ما ليس بنتيجةٍ لأفكاره نتيجة ) : أي و يعتبر ما ليس بنتيجة لأفكاره نتيجة لأفكاره ، كالمثال الذي ضربناه لكم ، و هو : أنّ ( سُقراطٌ إنسانٌ ) و ( سقراطٌ عالم ) إذن النتيجة : ( كلّ إنسانٍ عالم ) ، و لكن هذه النتيجة مرتبطة بهذه المقدِّمات ـ سقراط إنسان و سقراط عالم ـ أو غير مرتبطة ؟ من الواضح أنّها غير مرتبطة ـ و السبب في حصول عدم الترابط هذا لأنّه حصل هناك خطأٌ في الترتيب ، خطأ في ترتيب الموادّ .
( و ما ليس ببرهانٍ برهاناً ) : أي ما ليس ببرهان يحسبه برهاناً ، من قبيل استعمال الألفاظ غير الواضحة ، لأنّه بعدُ نحن لا نعرف ما هو المرادُ من البرهان .
( و قد يعتقد ... الاستنتاج الصحيح ) : و هذه العبارات تُشير إلى أنّ المنطق يُجيبُ ، عن الترتيب فقط ، أمّا عن صحّة المادّة و عدم صحّة المادّة فلا علاقة له بالمنطق
( و يُدرّبه على تنظيم أفكاره و تعديلها ) : أي و تعديل تلك الأفكار .
النصّ :
} و قد ذكروا أنّ ( علم المنطق ) هو الأداة التي يستعين بها الإنسان على العصمة من الخطأ ، و ترشده إلى تصحيح أفكاره ، فكما أنّ النّحو و الصّرف لا يُعلّمان الإنسان النّطق و إنّما يُعلّمانه تصحيح النّطق ، فكذلك علم المنطق لا يُعلّم الإنسان التفكير ، بل يُرشده إلى تصحيح التفكير { .
ـــــــــــــــــ0
الشرح :
هنا : يريد أن يُشير إلى هذه النكتة ، و هي أنّ : المنطق يقول لي فكّر أو إذا فكرت ففكّر بهذا الطريق ، أيٌّ منهما ؟ من الواضح أنّه هو الثاني ، لأنّه هذه " فكّر " الله سُبحانه و تعالى وضعه في فطرة الإنسان ، نعم المنطق يقول : إذا أردت أن تفكّر فهكذا فكّر ، و هذا من قبيل قوانين المرور ، فقوانين المرور تقول لك : إمشي أو تقول لك إذا مشيت في السيّارة فامشِ بهذا النّحو ؟ من الواضح أنّه الثاني ، لأنّ قوانين المرور لا تقول لك : إمشِ أو لا تمشِ فأنت مخيّر في المشي أو عدم المشي ، و إنّما تقول لك : إذا أردت أن تسير في هذا الطريق فلا بدّ أن تُراعي هذه القوانين حتّى لا تقع في الاصطدام ، و هنا أيضاً المنطق لا يقول للإنسان : " فكّر " و إنّما يقول له : إذا أردت أن تفكّر و تأخذ نتيجة من التفكير فهذه هي الطريقة الصحية للتفكير ، فلهذا قال :
( فكما أنّ النحو و الصّرف لا يُعلّمان الإنسانَ النّطق و إنّما يُعلّمانِهِ تصحيح النّطق ، فكذلك علم المنطق لا يُعلّمُ الإنسانَ التفكير ، بل يرشده إلى تصحيح التفكير ) أي كيف يكون التفكيرُ صحيحاً حتّى يُنتج نتيجةً صحيحة .
النصّ :
} إذن ، فحاجتنا إلى المنطق هي تصحيح أفكارنا . و ما أعظمها من حاجة ! و لو قلتم : إنّ الناس يدرسون المنطق و يخطأون في تفكيرهم فلا نفع فيه . قلنا لكم : إنّ الناس يدرسون علمي النّحو و الصّرف ، فيخطأون في نُطقهم ، و ليس ذلك إلاّ لأنّ الدارس للعلم لا يحصل على ملكة العلم ، أو لا يُراعي قواعده عند الحاجة ، أو يخطأ في تطبيقها ، فيشذّ عن الصّواب { .
ــــــــــــــــــ0
الشرح :
هنا يوجد إشكال ، و هو : أنّ الناس يدرسون المنطق و يخطأون في طريقة الاستدلال فما هو السبب ؟
إذا كان المنطق هو تعليم كيفيّة التفكير و الاستدلال الصّحيح فلماذا إذن نجد أنّ هذه المغالطات و أنّ هذه المناقشات و أنّ هذه المخالفات موجودة بين العلماء ؟
يقول : الجواب واضحٌ على هذا ، أولاً نحن ننقُضُ عليكم أنّ كثيراً ممّن يدرسون النّحو و لكن يخطأون في الكلام ، و هذا هو الجواب النقضي ، و كما يقولون أنّ النّقض لا يحلُّ المشكل و إنّما يزيد المشكلة إشكالاً و إلاّ فليس يحلّ المشكل ، لأنّه نفس الإشكال نحن نذكُرُه في النّحو . إنّما الكلام في الحلّ ما هو ؟ فنقول : الحلّ هو : أنّ المنطق لا يُخطِأ و لكنّ الذي يستعملُ المنطق قد لا يستعمله بالطريق الصّحيح فيكونُ مخطئاً ، و من هنا قالوا : " أنّ المنطق معصوم و المستعملِ للمنطق قد يُخطِأ و قد لا يُخطِأ " .
و إلاّ هذه القوانين التي ذُكِرَت في المنطق لو رُوعيت جميعُها على النّحو المناسب لها ، و بدقّة ، و مائة بالمائة ، و مادّةً و صورة فهل يُمكن بعد ذلك الخطأ أو لا يُمكن الخطأ ؟ من الواضح أنّه يستحيل و يمتنع الخطأ ؛ و لكن أنتـ جنابك ـ قد تُخطِأُ في الترتيب و قد تُخطِأُ في المادّة ، و الأكثر يكون الخطأ في الموادّ و إلاّ فإنّ ترتيب المواد قد يكون الإنسان بها قويّاً ، و من هنا وُجِدَ " فنُّ المغالطة " لأنّ فنّ المغالطة إنّما وُجِدَ لغرض أن يُبيّن أنّك أين تشتبهُ في الموادّ ، هذه المادّة صحيحة أو أنّها خاطئة ، هذا هو فنّ المغالطة .
و الحمدُ لله ربِّ العالمين .
الرواية عن النبيّ ( صلّى الله عليه و آله و سلّم ) :
قال النبيّ ( صلّى الله عليه و آله و سلّم ) :
" يا أبا ذر الجلوس :ُ ساعةً عند مذاكرة العلم أحبُّ إلى الله من قيام ألفِ ركعة ، و الجلوسُ ساعةً عند مذاكرة العلم أحبُّ إلى الله من ألفِ غزوة و قراءةِ القرآن كلّه ، قال يا رسول الله : مذاكرة العلم خيرٌ من قراءة القرآن كلّه ؟ ! فقال رسول الله ( صلّى الله عليه و آله و سلّم ) : يا أبا ذر الجلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحبّ إلى الله من قراءة القرآن كلّه إثنيْ عشرَ ألف مرّة " .
طبعاً مراراً نحن ذكرنا للإخوة في هذه الأبحاث بأنّ العلم بلا عمل لا قيمة له في مدرسة أهل البيت ( عليهم أفضل الصّلاة و السّلام ) .
العلم الذي يُعطيه الرّسول و الأئمّة هذه القيمة له هو ذلك العلم الذي نتيجته الخشية من الله سبحانه و تعالى " إنّما يخشى الله من عباده العلماء " فلا تتصوّر بأنّ حفظ الإصطلاح له كلُّ هذه القيمة .
أبو ذر عندما تعجّب أن يكون مذاكرة العلم أفضل من قراءة القرآن مرّة واحدة ، الرّسول ( صلّى الله عليه و آله و سلّم ) بيّن له أكثر من ذلك فقال له : ليس مرّة واحدة بل إثني عشر ألف مرّة " عليكم بمذاكرة العلم " الآن يتبيّن لماذا أنّه أفضل من قراءة القرآن إثني عشر ألف مرّة .
" بالعلم تعرفون الحلال و الحرام " الإنسان يقرأ القرآن و لا يعرف الحلال و الحرام فما فائدة هذه القراءة ، صحيح أنّه يُحصِّل على هذه القراءة الثواب من الله تعالى و لكن إذا كان لا يعرف الحلال و الحرام فما قيمة معرفة أو قراءة القرآن .
" يا أبا ذر ساعة عند مذاكرة العلم خيرٌ لك من عبادة سنة صيام نهارها و قيام ليلها ، و النظر إلى وجه العالم خيرٌ لك من عتق ألف رقبة " .
هذه الرواية ينقلها في " جامع الأخبار " الصفحة ( 44 ) في الفصل العشرين .
نأتي إلى محلّ كلامنا .
قال :
النصّ:
} الحاجة إلى المنطق {
ــــــــــــ0
الشرح:
تمهيد
يقول العلاّمة السيّد كمال الحيدري ( حفظه الله تعالى ) : في نظري قبل الدخول في البحث عن المنطق لا بأس بالإشارة إلى بعض النكات ، و هي :
من الواضح عند الأُخوة أو لعلّ أنّ كثيراً منهم سمع بأنّ هذا العلم ـ و هو ما يًسمّى في أيدينا أو ما هو المعروف بيننا بـ " علم المنطق " ـ هو علمٌ مستوردٌ من الخارج و ليس علم مولّدٌ في الداخل إن صحّ التعبير ، أي ليس علمٌ توليديّ ولّده فكر علماء المسلمين و إنّما هو علمُ أُستُورِدَ من الخارج ، جاءنا من الفكر اليونانيّ و بالخصوص جاءنا من " أرسطوطاليس " و قد ترجم هذا المنطق إلينا " حُنين بن إسحاق " ، هناك ترجمات كثيرة موجودة للمنطق اليونانيّ و لكن أدقُّ تلك الترجمات كما يقول أهلُ الخبرة هي الترجمة التي قام بها حُنين بن إسحاق.
من هو أرسطوطاليس؟
من هنا لا بأس أن نُشير و لو بنحو الإجمال ـ إن شاء الله حتّى أنّ الطالب يكون على بيّنة ـ إلى أنّه من هو أرسطوطاليس أولاً ، و ثانياً : أنّه هل هو واضعٌ لعلم المنطق أو هو مؤلّف علم المنطق ، و ثالثاً : ما هي قيمته في الروايات الواردة عندنا ، يعني قيمة هذا الإنسان " آرسطوطاليس "؟
في الروايات الواردة عندنا و في كلمات الأعلام من الفلاسفة و المناطقة بأنه هذا ـ أرسطوطاليس ـ الذي يأتي على الألسنة كثيراً ، في المنطق ، في الفلسفة ، في الطبيعيّات ، في الإلهيّات ؛ من هو هذا الإنسان ؟
في مقام الجواب على هذا السؤال لا بد أن نشير إلى بعض النكات :
في الصفحة ( 62 ) من كتاب " شرح المنظومة " لأُستاذنا الشيخ حسن زاده آمليّ في الجزء الأول " شرح منطق المنظومة " ـ باعتبار أنّ الشيخ له شرح على منطق المنظومة و هو الجزء الأول من " شرح المنظومة " و هو الذي ننقل عنه هنا ، و شرح على حكمة و فلسفة المنظومة ، و هو الجزء الثاني من " شرح المنظومة " ـ .
هناك في الصفحة ( 62 ) ، يقول بأنّ حياة هذا الإنسان كانت قبل ، أو تولّدُه كان في سنة ثلاثمائة و أربعة و ثمانين قبل الميلاد و عاش حدود الإثنين أو ثلاث و ستين سنة و توفي سنة ثلاثمائة و إثنين و عشرين قبل الميلاد .
ينقل هذا المطلب في " شرح المنظومة " عن الشهرستاني في كتاب " الملل و النِّحَل " يقول : هو " نيقوماخوس " و هو المقدّم المشهور ، و هو المعلّم الأول و الحكيم الفاضل المطلق عندهم و إنّما ولِد في أول سنة من أزدشير إبن دارا في الفُرس ، فلما أتت عليه سبعة عشرة سنة أسلمه أبوه إلى أفلاطون و مكث عند إفلاطون نيِّف و عشرين سنة ؛ فهو تلميذ لأفلاطون بحدود عشرين سنة أو أكثر ، و إنّما سمّوه " المعلّم الأول " لأنّه واضعُ التعاليم المنطقيّة ، أي باعتبار أنّه وضع التعاليم المنطقيّة و مُخرجُها من القوّة إلى الفعل و حُكمُهُ حكمُ واضعِ النّحو و العروض ؛ فإنّ نسبة المنطق إلى المعاني التي في الذهن هي نسبة النحو إلى الكلام ، و العروض إلى الشعر ، كيف أنه نحن نحتاج إلى النحو و العروض في الشعر فلا يُمكننا بلا نحو و لا عروض ـ و هو الذي وضعه الفراهيدي ـ لمعرفة الشعر كذلك لا يُمكننا أن نتعرّف على المعاني إلاّ بالمنطق ، الآن هذا المقدار كافٍ .
إذن هو ولادته سنة ثلاثمائةو أربعة و ثمانين قبل الميلاد و وفاته سنة ثلاثمائة و إثنين و عشرين قبل الميلاد ، في حدود إثنتي و عشرين أو ثلاثين أي عمره ثلاث و ستين سنة .
ما هو موقع هذا الرجل في الروايات عندنا ، هل له ذكرٌ أو ليس له ذكرٌ في الروايات ؟
في كتاب " محبوب القلوب " للدليميّ ـ و هو من علمائنا ـ ينقل شيخنا الأُستاذ الشيخ حسن زاده هذا المطلب عن كتاب " محبوب القلوب " للدليميّ . التفتوا للرواية ـ طبعاً أنا لست بصدد بيان أنّ هذا المطلب صحيح أو ليس بصحيح و إنّما فقط لبيان قيمة هذا الرجل في الروايات الواردة عندنا ـ قال : جاء في الأثر أنّ أرسطوطاليس كما في " محبوب القلوب " للدليمي قال يُروى ـ أي يقول الدليمي في هذا الكتاب ـ أنّ عمرو بن العاص قدِمَ من الإسكندريّة على سيّدنا رسول الله ( صلّى الله عليه و آله و سلّم ) فسأله ـ أي الرسول سأل عمرو بن العاص ـ عمّا رأى في الإسكندريّة في مصر ، قال : رأيتُ قوماً يُطلِّسون و يجتمعون حلقاً و يذكرون رجلاً يُقالُ له أُرسطوطاليس لعنه الله ، فقال ( صلوات الله و تسليماته عليه و آله ) : مهْ يا عمرو ، إنّ أُرسطوطاليس كان نبيّاً فجهله قومُه " ثم قال الدليميّ : إلى آخره .
الآن هذه الرواية نحن لا نتكلّم في سندها ، في متنها ، صحيحة أو غير صحيحة ، الآن أنا لستُ بصدد هذا ، و لكن فقط أُريد أن أُبيِّن هذا المطلب .
ثمّ الديلميّ في " محبوب القلوب " قال : أقول و المؤيِّد لهذه الرواية ما نقل السيّدُ الطاهر ذو المناقب و المفاخر رضيُّ الدين عليّ بن طاووس في كتابه " فرج المهموم في معرفة الحلال و الحرام من علم النجوم " بأنّ أبرخس و بطلَمْيوس و آخرين كانا من الأنبياء ، هذه الأسماء أسماء الأنبياء و لكنّها لمّا كانت أسماء يونانيّة فنحن لم نستطع أن نُطبِّقُها على الأسماء الموجودة عندنا في القرآن فتصوّرنا أنّ تلك الأسماء هم أشخاص و هؤلاء الذين يقول عنهم القرآن هم أشخاص أُخَر ، و لعلّه أحدهما منطبقٌ على الآخر ، و كذلك ورد في كلام الإمام الصّادق ( عليه أفضل الصّلاة و السّلام ) في " توحيد المفضَّل " هناك عندما يتكلّم الإمام مع المفضَّل بن عمرٍ الجُعفيّ و يُبيِّن له الدليل لإثبات وجود الله سُبحانه و تعالى عن طريق الإتقان و الصُّنع لنظام العالم ، يقول : و كان لهم ـ أي لليونانيّين ـ رجلٌ اسمه أُرسطوطاليس أثبت لهم وجود الله سُبحانه و تعالى عن طريق المحرِّك الأوّل .
إذن ، إسمُ هذا الإنسان أيضاً جاء على لسان الإمام الصّادق ( عليه أفضل الصّلاة و السّلام ) و هذا يكفي أُرسطو مفخرةً و هو أن يأتي إسمه على لسان الإمام الصّادق ( عليه أفضل الصّلاة و السّلام ) .
طبعاً ، كلُّ هذا الذي قلت إنّما قلتهُ ليس بصدد الإثبات و لا بصدد النفي ، فأنا الآن لست بصدد أن أقول أنّ أُرسطو نبيٌّ أو ليس بنبيّ ، و إنّما فقط أُريد أن أُبيِّن منزلةَ هذا الرّجل في الروايات الواردة عندنا .
أمّا فيما يرتبطُ بأقوال المحقِّقين ، فأقوال المحقِّقين كثيرة ، من إبن مسكويه إلى إبن خُلدون إلى الشيخ الرئيس إلى .. إلى .. ، كثير من الكبار يُعظِّمون هذا الرجل تعظيماً لا حدَّ له ، و لكنّ السؤالَ المطروح هنا و هو : أنّ أُرسطوطاليس هل هو واضعُ علم المنطق ، يعني هل أنّ علم المنطق لم يكن قبله ، أو أنّه هو المدوّنُ و المؤلِّف و المرتِّب لعلم المنطق ، يعني قبله لم يكن علمُ المنطقِ مرتَّباً و إنّما رُتِّبَ في زمن أُرسطوطاليس ؟
من الكلمات أنتم تسمعون من هنا و هناك يُعبَّر عن أُرسطوطاليس بأنّه واضع المنطق مع أنّ أُرسطوطاليس هو و غيره من المحقّقين يقولون بأننا ، يقول بأنّه لستُ أنا الواضعُ لعلم المنطق و إنّما أنا المؤلّفُ في علم المنطق و إلاّ فالمنطقُ كان موجوداً قبلي و لكن لم يكن مرتّباً بهذا الترتيب الذي وجِد في زمانه .
الآن أُنظروا إلى هذه العبارة ، و هي : أنّ الشيخَ الرئيس ( رحمة الله تعالى عليه ) في آخر " منطق الشِّفاء " ينقل هذا المطلب عن نفس أُرسطو ، يقول : قال أُرسطو : " إنّا ما ورثنا عمّن تقدّمنا في الأقيسة إلاّ ضوابط غير مفصّلة " إذن ، تبيّن أنّ ما ورثه أُرسطو كان له هناك قياس و لكن لم توضع له ضابطة واضحة مفصّلة تبيّن العقيم مِنْ المنتج ، كما سيأتي ذلك في بيان الأقيسة ، و يتابع الشيخ الرئيس قول أُرسطو : " و أمّا تفصيلُ الأقيسة و إفرادُ كلِّ قياسٍ بشروطه و ضروبه و تميّز المنتج عن العقيم إلى غير ذلك من الأحكام فهو أمرٌ قد كددنا فيه أنفسنا و أسهرنا أعيننا حتّى استقام على هذا الأمر الذي تجدون ، فإن وقع ... " ثمّ يوصي للذين يأتون بعده ، يعلم أنّه عندما هو واضع و مؤلفٌ لهذا العلم ، أي أولُ مؤلّفٍ ، إذن لا يُمكن أن يكونَ العلمُ على أوجه و كماله ، بل يكون في أول بدوه ، و من هنا يكون من قبيل الطفل الذي لم ينضُج ، لم يبلُغ ، لم يصل إلى الكمال المطلوب له ، يوصي أنّ الذين يأتون بعده عليهم أن يُكمّلوا هذا العلم ، يقول : " فإن وقع لأحدٍ ممّن يأتي بعدنا فيه زيادة أو إصلاح فليُصلحه أو خلل فليسدّه " .
إذن ، الرجل لا يدّعي بأنّه جاء بهذا العلم على كماله المطلوب ، و من هنا أنت تجد أنّ هذا العلم و هو " علم المنطق " الذي بدأ تأليفه على يد أُرسطو أصابه كمالٌ كثير إلى أن وصل إلى يد الشيخ الرئيس و عندما وصل إلى يد الشيخ الرئيس و هو أبو علي بن سينا ، هذا الإنسان وصل بالمنطق الأُرسطي إلى أوْجِه فكتب " منطق الشفاء " الذي يعادل أضعاف ما كتبه أُرسطو في " المنطق " .
شهادة الشيخ الرئيس أبو عليّ بن سينا في حقّ أُرسطوطاليس :
ـــــــــــــــــــــــــ0
و لكن هذا نفس إبن سينا الذي كتب في هذا المنطق هذا المقدار و أوصل هذا العلم إلى أوْجِه ،ِ أُنظروا ماذا يقول في حقّ الرجل ، ماذا يقول في حقّ أُرسطو ، يقول : فقال الشيخ : ( " أُنظروا معاشر المتعلّمين ـ الآن هو قال ـ أي أُرسطو ـ : " فإن وقع لأحدٍ ممّن يأتي بعدنا فيه زيادة أو إصلاح فليُصلحه " ـ هل أتى أحدٌ بعده زاد عليه شيئاً ، أي هل أنّ أحداً قال شيئاً و لم يقله أُرسطوطاليس ـ أو أظهر فيه قصوراً أو أخذ عليه مأخذاً مع طول المدّة و بُعد العهد " ) فالمسافة ليست يوم أو يومين و إنّما المسافة بين أُرسطوطاليس و بين الشيخ الرئيس هي مسافة طويلة جدّاً لعلّها تصل إلى عشرة أو إثنا عشرَ قرناً ( 1200 أو 1300 سنة ) و لكن مع ذلك لم يأتي أحدٌ بجديدٍ عليه ( "بل كان ما ذكره هو التامّ الكامل و الميزان الصحيح و الحق الصريحّ " ) هذه الشهادة لإنسان محقّق و أُستاذ في الفن و ليست هي شهادة لإنسان عطّار أو بقّال ، شهادة من إنسان كتب أوسع دورة في الدولة الإسلامية ، أوسع دورة في المنطق و هو " منطق الشفاء " الذي يقع في أربع مجلّدات من الشفاء البالغ عشرة مجلّدات .
هذه شهادة الشيخ الرئيس في حقّ أُرسطوطاليس .
شهادة إبن خُلدون في حقّ أُرسطوطاليس :
ــــــــــــــــ0
و أمّا شهادة إبن خلدون ، فإنه يقول : ( إنّ الإسان لمّا خلق الله له الفكر الذي يُدركُ به ـ إلى أن يقول ـ و تكلّم فيه المتقدّمون أول ما تكلّموا به جُملاً جُملا و متفرِّقاً و لم تُهذّب طُرُقُه ، و لم تُجمع مسائله حتّى ظهر في يُونان ( أُورسطو ) .
إذن ، تبيّن أنّ ( المنطق ) قبل أًُرسطو كان موجوداً في اليونان إلاّ أنّه لم يكن مهذّباً ، لم يكن منقّحاً ، لم يكن مؤلّفاً بالطريقة التي نجدها الآن .
( فهذّب مباحثه و رتّب مسائله و فصوله و جعله أول العلوم الحكميّة و فاتحها ) ، إذن ، من يُريد أن يدخل العلوم الحكميّة ، الفلسفيّة ، الكلاميّة ، بل في زماننا إذا أراد أن يدخل إلى الفقه ، و الأُصول فإنّه لا يُمكنه أن يدخلها بغير معرفةٍ للمنطق كما سنُبيّن ـ إنشاء الله بعد ذلك ـ و لذا يُسمّى بالمعلَّم الأول و كتابه المخصوص يُسمّى بـ (المنطق ) و أيضاً يُسمّى بـ (النصّ ) و نحو ذلك .
إذن ، فيما يرتبط بهذا العلم إتّضح لنا بأنّ هذا العلم أولاً : هو مستوردٌ من اليونان و ليس متولّدٌ من فكر علماء المسلمين ، و ثانياً : إتّضح لنا بأنّ أُرسطوطاليس ليس هو الواضعُ للمنطق بل هو المهذِّب و المؤلِّف في المنطق و إلاّ فالمنطق كان موجوداً قبله و لكن لم يكن بهذا الكمال الذي وصل على يد أُرسطوطاليس .
من هنا لا بدّ أن نقف متأمِّلين عند هذا المنطق لنرى أنّ هذه القوانين و أنّ هذا العلم الذي جاءنا من فكرٍ آخر ـ لأنّ الفكر اليونانيّ فكرٌ له أُصوله و له قواعده و له إتجاهاتُه المختلفة عن الفكر الإسلاميّ الذي جاء به القرآن و رواية أهل البيت عليهم أفضل الصّلاة و السّلام ـ لنرى أنّ هذا الفكر الذي جاءنا من هناك هل يُمكن أن نقبله ضمن إطارنا الفكريّ أو لا ينبغي لنا ذلك ، بل ينبغي أن نطرده عن إطارنا الفكريّ لأنه جسمٌ غريبٌ علينا و الجسم الغريب لا مجال له في هذا الجسم الإسلاميّ ، فهل أنّ الفكر المنطقي ، علمُ المنطق هو من الأجسام الغريبة التي دخلت الفكر الإسلاميّ أو أنّ الفكر المنطقيّ و علمُ المنطق الذي دخل إلينا إنسجم مع الفكر الإسلاميّ بل و خدم الفكر الإسلاميّ أيضاً ؟
هذا ما نُريد أن نبحثه ـ إنشاء الله ـ بالمقدار الممكن في هذا الكتاب و هو " علمُ المنطق " ضمن عدّة مطالب :
المطلب الأول : لنرى أننا نحتاجُ إليه أو لا نحتاج إليه ؟ نؤمنُ به مطلقاً أو نرفضه مطلقاً أو من المفصّلين أي نؤمن بالبعض و نرفض البعض الآخر ؟ هذا مطلبٌ .
المطلب الثانيّ : و هو أنّه لا بدّ أن تعلموا بأنه في الفترة الأخيرة ، نوقِش المنطق الأُورسطيّ من قبل الفكر الغربيّ مناقشة حادّة جداً و خصوضاً على يد أمثال " ديغول " الإنكليزي و على يد أمثال " ديكارت " الفرنسيّ ؛ فهؤلاء هاجموا المنطق الأُورسطيّ هجوماً عنيفاً جداً بنحوِ وصفوه ـ طبعاً هاجموه جميعاً و ليس هاجموا جزءاً منه ـ و عبّروا عنه بأنه باطلٌ و غير مفيدٍ ، عبّروا عنه بتعبيراتٍ مختلفة لإسقاط هذا المنطق عن الفكر الذي يحكمهم ، و هذا حدث قبل ثلاثة أو أربعة قرون ، و لكن في الفترات الأخيرة خفّ هذا الهجوم عن وطأته السابقة و بدأوا يفكّرون بشكلٍ أدقّ لا بالشكل الرافض للمنطق الأُورسطيّ جملةً و تفصيلاً .
فهنا ما هي وظيفتنا ؟ هل أننا أيضاً نرفض المنطق الأُورسطيّ رفضاً مطلقاً كما فعلع بعضِ الغربيّين أو نقبله قَبولاً مطلقاً كما يحاول البعض أن يدّعي أنّ كلّ ما قاله فهو صحيحٌ كما ذكر الشيخ الرئيس ـ رحمةُ الله تعالى عليه ـ فقال : " هو الحقُّ الصحيح الذي لا يوجد غيرُه " أو لا بدّ أن نُحقّق فيه لنرى الصحيح من الخطأ ؟
طبعاً ، هذه النُكتة لا بدّ أن تكون واضحة ، هذا المطلب الثاني .
المطلب الثالث : سنُشير إليه عندما نوضّح وظيفة النطق ما هي .
إذا اتّضحت هاتين المقدِّمتين نأتي إلى محلّ الكلام : و هو أولاً : ما هو المراد من " المنطق " ، و ما هو تعريفُ المنطق ؟
طبعاً ، عندما نقولُ " تعريفُ علم المنطق " ـ الآن نحن لسنا بصدد أن نُبيّن أن هذا التعريف هل هو تعريفٌ حدّي ، تعريفٌ رسمي ، جنس ، خاصّ ، خاصّة ، عرض عام ، عرض خاصّ ، هذه تفصيلات و شروط التعريف ستأتي في هذا المنطق ـ إنما نريد أن نعرف أنه نحن نريد أن نبحث عن ماذا فقط ، و ليس مرادي من تعريف " علم المنطق " هنا يعني ( جنس و فصل و حدٌّ تام أو حدٌّ ناقص و رسمٌ تامّ أو رسمٌ ناقص ) و إنما كلُّ هدفي أن نُبيّن أنّ هذا العلم الذي نُريد أن ندرسه ما هو هذا العلم ؟ نبحث عن ماذا ، فهل هذا العلم المسمّى بعلم المنطق مرتبطٌ بعلم الرياضيّات أو مرتبطٌ بعلم الكلام ، أو مرتبطٌ بالطبيعيّات ؟ أي بأي علمٍ من العلوم مرتبط علمُ المنطق ؟
إذا عندما نقول : " تعريفُ علم المنطق " ليس مرادنا الشرائط التي تُذكر للتعريف في نفس هذا العلم التي سيأتي ـ إنشاء الله ـ في باب " التعريف و المعرِّف " .
مقدِّمة في بيان تعريفُ " علم المنطق "
ــــــــــــــ0
ماهو تعريف : علم المنطق " ؟
في مقام الجواب عن هذا السؤال لا بدّ أننا نحتاج إلى مقدِّمة مؤدّاها : أنّ الله ـ سُبحانه و تعالى ـ خلق الإنسان محبّاً لكماله , و باحثاً عن كماله ، و هذه من الأُمور الفطريّةالتي خُلِقَ الإنسانُ عليها ، و أشرنا إلى هذا البحث في النحو المناسب في أبحاثنا الكلاميّة ، و نحن هناك ـ أي في أبحاثنا الكلاميّة ـ بيّنا أنّ هذه من الأُمور التي فُطِرَ عليها الإنسان ، لا أقول كلّ موجود باعتبار أنّ الموجودات الأُخرى كلّ واحدة لها حكمها الخاصّ ، نحن الآن نتكلّم عن أنفسنا كأُناس ، الإنسان خُلِقَ مفطوراً على حُبّ الكمال ، فما معنى حُبّ الكمال ؟
معنى حُبّ الكمال :
ـــــــ0
معنى حبّ الكمال : يعني يُريدُ و يُحبُّ تلك الأشياء التي تُلائمُ ذاته و يتنفّرُ عن تلك الأُمور التي تتنافرُ مع ذاته ؛ هذا هو حبُّ الكمال و الفِرارُ من النّار .
سؤال : هل خُلِق الإنسان و هو واجدٌ لكلّ كمال أو خُلِقَ الإنسانُ و هو لا يملِكُ أيَّ كمال ، أيٌّ منهما؟
الجواب : من الواضح أنّ الإنسان لم يُخلَق و هو واجدٌ لكلّ كمالٍ و إلاّ لو كان واجداً لكلّ كمالٍ فإنه لا معنى لأنْ يطلُب الكمال ، و من هنا نحن نقول في الله ـ سُبحانه و تعالى ـ أنّه لا يطلُبُ أيَّ كمال ، لماذا ؟ الجواب : لأنه ـ تعالى ـ واجدٌ لكلّ كمال .
مثال توضيحيّ : أنت عندما يوجد في جيبك ( ألف دينار ) فهل أنت تبحثُ عن ( ألف دينار ) آخر ؟ نعم إذا كنت تبحث عن ( الألف الثانية ) أي أنّك إذا كنت تُريد ( ألفين دينار ) لا ( ألف دينار ) فإنك في هذه الحال تبحثُ عن ( الألف الثانية ) ، أمّا لو كنت أنت تكتفي بـ ( ألف دينار ) و في جيبك يوجد ( ألف دينار ) فمن الواضح أنك عندها لا تبحث عن ( دينارٍ واحد ) زيادةً عما ترى أنك تستكفي بوجوده عندك و هو ( الألف دينار ) و السبب هو : لأنّك واجدٌ لذلك الشىء الذي تُريدُه فتعتبر وجوده كمالٌ لك ، و الإنسان لم يُخلَق واجداً لكلّ كمالٍ بل هو مخلوقٌ و هو فاقدٌ لأكثر الكمالات ، نعم يملِك بعض الكمالات و واحدة من هذه الكمالات أنّه يبحثُ عن الكمال ، و بحث الإنسان عن الكمال هو كمالٌ في الإنسان لا أنّه نقصٌ في الإنسان ، فهو فاقدٌ لأكثر الكمالات .
و من هنا فالإنسان باحثٌ عن الكمال ، هاربٌ من النّار و هذا ما يوجِدُ عنده غريزة حبّ الإطّلاع الموجودة عند كلّ إنسان ، و هذه الغريزة منشأها ذلك الأمر الفطريّ الموجود في الإنسان و هو الحبُّ للكمال و الهروبُ من النّار ، فيُحِبُّ أن يطّلع ، أمّا لماذا يُحِبُّ أن يطّلع ؟ فنقول : ليرى أنّ ذلك الذي إطّلعَ عليه هل هو مفيدٌ لكماله فيطلِبُه و يُحِصّلِهُ ، و إذا كان الذي إطّلع عليه لا يُفيدُ كمالَه بل يؤدّي إلى نقصه حتّى يتجنّبَه و يهرُبَ منه ، و من هنا توجدُ في وجود الإنسان غريزةُ حبّ الإطّلاع .
و من هنا يأتي هذا السؤال ، و هو : أنّ هذا الإنسان هل كُشِفَ له كلُّ شىء أو أنّ بعضَ الأُمور مكشوفة و أمّا المجهولات فلا عدَّ لها و لا حصر ، أيٌّ منهما ؟
من الواضح أنّ الجواب هو الثاني ، و هو أنّ الإنسان كُشِفَت له بعضُ الأُمور التي يحتاج إليها كأداة أوليّة للبحثِ عن المجهول و لكنّه أكثرُ الأُمور إن لم نَقُلْ الغالب ، إن لم نَقُلْ تمامها إلاّ القليل فإنّها مجهولةٌ عنده ، فإذا صارت مجهولة و يوجَدُ عنده حبُّ الإطِّلاع الناشيءِ من حُبِّ الكمال فإنّه عند ذلك يُريد التعرّف على تلك المجهولات .
و من هنا فهو طالبٌ للكشف عن كلِّ مجهولٍ يُصادِفُه في حياته ، و كلّ مجهولٍ يُصادفه في حياته فهو طالبٌ للكشفِ عنه بنحوٍ يستطيعُ أن يُفكّرَ و أن يستدِلَّ للكشفِ عن المجهول ، أي عنده معلومات ـ و نحن قلنا بعض الأُمور معلومة له و إنشاء الله ستأتي هذه المعلومات ما هي ، و كم عددُها ، موجودة في فطرةِ كلِّ إنسان أو غير موجودة ، إنشاء الله عندما ندخل في أبحاث القياس و البرهان ، هناك سنُبيّن أنّ هذه الأُمور المعلومة ـ يعني غير الإكتسابيّة ـ أي الأُمور التي نُعبّر عنها بـ ( البديهيّة ) أو ( الضروريّة ) هذه الأُمور ما هي عددُها ، و هل تعتبر الأُمور الأوليّة لهذا الإنسان الباحثِ عن المجهول للكشفِ عنها ؟
و هذه من مختصّات الإنسان و هو : أنه توجدُ عنده معلومات ، توجدُ عنده مجهولات ، يستطيعُ من خلال تلك المعلومات أن يصِلَ للكشفِ عن تلك المجهولات ، و هذه هي خاصّة التفكير أو خاصّة الفكر .
طبعاً نحن لا نعلم أنّ الحيوانات أيضاً عندها هذه القدرة و هي قدرة الكشف عن المجهول أو لا توجد عندها هذه القدرة للكشف عن المجهول ، يعني أنّ الحيوان أيضاً عنده مجهول و بالإستدلال يكتشف ذلك المجهول أو أنّ الحيوان غير الإنسان من الموجدات الحيّة هل أنها أيضاً لها كمالات و بالإستدلال تصلُ إليها أو أنّ كلّ كمالاتها موجودة لها من الحين الأول ؟
الجواب : المحققون يقولون: بأنّ الحيوانات كلّ ما لها من الكمال الله سُبحانه و تعالى يرزقها من الإبتداء ، يعني لا يوجد عندها شىءٌ اكتسابي بخلاف الإنسان فإنه توجد عنده أمور يكتسبها ، بخلاف هذه النملة أو بخلاف زنبور العسل فإنه مذ يخرجُ من بطن أُمّه يعرف النظام الكاملَ الذي يحكم عالم النمل ، فلا يحتاج أبداً أن يذهب إلى مدرسة و يتعلّم و يأخذ ، و إنما الله سُبحانه و تعالى خلقه بهذا الشكل و هو أنه واجدٌ لكلّ الكمالات التي يحتاجها .
إذن لا أقلّ : نحن نعلم أنّ الإنسان زُوِّد بالفِكر و زُوِّد بالقدرة على الاستدلال ؛ أمّا ما هو الفِكر ؟ تفصيله سيأتي ـ إنشاء الله ـ في أول بحث " القياس " .
الفِكر : قالوا هو : ترتيب أُمورٍ معلومة للوصول إلى الكشف عن مجهولٍ .
هذا الترتيب ـ في الأُمور المعلومة للوصول إلى الكشف عن أمرٍ مجهول ـ في المقدِّمات التي ذكرناها ، هذه نُسميها " عمليّةُ التفكير " و " عمليّةُ الاستدلال " ، و لكن و هو أنّ الإنسان الذي يريد أن يستفيد من هذه المعلومات الموجودة عنده ليكشف عن مجهولٍ من المجهولات ، هنا يأتي عليه سؤالان :
السؤال الأول : و هو أنه كيف يُرتّب هذه المعلومات حتّى تكشف له عن مجهول ، هل بأيِّ نحوٍ رتّبها تكشف عن المجهول أو لا بدّ أن يُرتّبها بنحوٍ خاصّ حتّى تكشف عن المجهول ؟
السؤال الثاني : و هو أنّ أيّ معلومٍ يكشفُ عن أيّ مجهول أو أنّ هناك ارتباطاً خاصّاً بين بعض المعلومات و بعض المجهولات ، أيٌّ منهما ؟
من الواضح ، الجواب هو الثاني ، و من هنا " المنطق " يحاول أن يجيب إمّا على السؤالين معاً و إمّا على سؤالٍ واحد من السؤالين و السؤال الثاني لا نعلم أنه من يُجيبُ عليه ـ الآن أُبيّن لماذا أنّ " المنطق " يتبنّى السؤالين أو يتبنّى سؤالاً واحدا .
عودٌ إلى السؤالين :
ـــــــ0
السؤال الأول ، هو : أنّه كيف يُرتّب المعلومات ـ أي أنه توجد عنده معلومات و نحن قلنا بعد ذلك سنُبيّن ما هي هذه المعلومات التي يملكها الإنسانُ بلا اكتساب ، أي هي المعلومات الضروريّة و البديهيّة ، فهذه المعلومات غير مكتسبة من الخارج و إنما موجودةٌ عنده ، و أمّا كيف تكون هذه المعلومات موجودة عند الإنسان فذلك أيضاً بحثٌ سيأتي في محلّه ، و أنا فقط من باب الاستذكار و الإشارة أُشير فأقول : كيف توجد هذه ، يعني خُلِق الإنسان و هذه المعلومات معه أو أنه لم يُخلَق و هذه المعلومات معه ؟ أيضاً نحن سنُشير إلى هذا البحث ـ إنشاء الله ـ في محلّه .
المهمّ أنه توجد عند الإنسان بعض المعلومات ، و هذه المعلومات كيف يُرتّبها للوصول إلى أمرٍ مجهول ، هل كيفما رتّبها توصِل أو لا ؟
مثال توضيحيّ : يقول ـ مثلاً ـ : ( سُقراطٌ عالمٌ ) ، ( سُقراطٌ إنسانٌ ) فيكون إذن : ( كلُّ إنسانٍ عالمٌ ) و هذه ليست صحيحة ، لأنه ثمّ ماذا ؟ و إذا كان سقراط إنسانٌ ؟! ، و إذا كان سقراطٌ عالمٌ ؟! فإنّ ذلك لا يُعطينا نتيجة : ( أنّ كلّ إنسانٍ عالمٌ ) ، فهذا الاشتباه أين ، هل هو في المعلومات ؟ لا ، في المعلومات لا يوجد اشتباه ، لأنه سقراط إنسان و سقراط أيضاً عالم ، فإذن ، الاشتباه في المادّة الأوليّة غير موجود ، و إنما الاشتباه موجود في ترتيب هذه المادّة للوصول إلى الكشف عن مجهولٍ من المجهولات .
إذن هنا الموادّ ، موادّ البناء ـ إذا أردنا فرضاً أنّ نمثّل العلم ، يعني العلوم بالبناء ـ سالمة و ليس فيها عيب ، و لكن ترتيبُ البناء بنحوٍ يخرج هذا الجدار بدل أن يكون مستقيماً ، عمودياً فإنه يخرج مائلاً فلا يُعطي الغرض المطلوب .
إذن ، تارةً : أنّ الذهنَ الإنسانيّ الذي يُريد أن يستدلّ يخطأُ في المادّة أو في الهيئة ـ أي في الترتيب ـ ؟
فهو هنا قد أخطأ في الترتيب ، و المادّة سالمة من كلِّ عيبٍ ، لا يوجد فيها أيُّ عيب ، لأنّه عنده ( سقراطٌ إنسانٌ ) و ( سقراطٌ عالمٌ ) كلتا المادّتين صحيحتين و مطابقة للواقع أيضاً ، لأن سُقراط ـ واقعاً ـ عالمٌ ، و سُقراط أيضاً ـ واقعاً ـ إنسانٌ ، و لكن لماذا ـ إذن ـ لا يُعطي نتيجة : (كلُّ إنسانٍ عالمٌ ) ؟ فنقول : لأنّ هذا الترتيب الموجود بين هذه الموادّ و المعلومات لم يكن الترتيبَ الصحيح لإعطاء هذه النتيجة المطلوبة .
و أُخرى : أنّ الذهن البشريّ لا يُخطىءُ في " الترتيب " و إنّما يُخطِىءُ في " نفس الموادّ " ، أي الموادّ تكون معيبة و ناقصة و أمّا الترتيب فصحيح ، فمثلاً : ( سقراطٌ إنسانٌ ) و ( كلُّ إنسانٍ ظالمٌ ) فالنتيجة : ( سقراطٌ ظالمٌ ) فهل هذا صحيحٌ أم باطل ؟ نقول : ذلك باطلٌ ، و لكنّ أيّ منهما الباطل هل الخطأ في الترتيب ؟ فنقول : لا ، فالصغرى موجودة ، و الحدّ الأوسط مكرّر ، و لكنّ العيب أين ؟ العيب إنّما هو في مادّة البناء ، أي في الموادّ خاطئة ، نحن لا نقبل منكم ! و من أين تقولون أنتم بأنّه ( كلّ إنسانٍ ظالمٌ ) ، هذه المعلومة ( و كلّ إنسانٍ ظالمٌ ) من أين أنتم أتيتم بها ؟ نحن نقول أنّ هذه باطلة و الصحيح هو أنّه ( بعض الإنسان ظالمٌ ) .
إذن ، ( و كلّ إنسانٍ ظالمٌ ) لا يُعطي نتيجة ، لأنّها باطلة ، إذ ليس ( كلّ إنسانٍ ظالمٌ ) و إنّما ( بعض الإنسان ظالمٌ ) .
إذن ، تارةً أنّ الفكر الإنساني يخطأ في " الهيئة " مع أنّ " الموادّ " صحيحة ؛ و أُخرى يخطأُ في " المادّة " مع أنّ " الهيئة " صحيحة ، طبعاً من الواضح أنه : و قد يخطأُ فيهما معاً هيئةً و مادّةً ، ممكنٌ ذلك أيضاً و سيأتي ـ إنشاءالله ـ تفصيله .
سؤال : المنطق جاء ليؤدّي أيّ وظيفة ؟ فهل جاء " المنطق " ليقوِّم " الهيئة " يعني الخطأ في " الترتيب " و الخطأ في " المادّة " أو جاء " المنطق " و دوِّنَ " المنطق " ليُجِيبَ عن الخطأ في " الهيئة " لا عن الخطأ في " المادّة " فالخطأ في " المادّة " له مجالٌ آخر ، خلافٌ في المسألة ؟
الجواب : الماتن ، المصنّف ، الشيخ المظفّر ـ رحمة الله تعالى عليه ـ يظهر من عبارته أنّه يُريد أن يقول : أنّ المنطق ـ فقط ـ يُجيب عن السؤال فيما يرتبط بالخطأ في الهيئة و الترتيب ، أمّا الخطأُ في المادّة فهذا لا علاقة له بالمنطق ، و من هنا تجدون أنّ المنطق الأُورسطيّ يُسمّى بـ " المنطق الصُّوري " و السبب : لأنّه يتعلّق بالجانب الصُّوري و الهيئة و الترتيب و لا علاقة له بالمنطق المادّي ـ أنّ المادّة صحيحةٌ أو هي خاطئة ـ هذا قولٌ و جملةٌ من المحقّقين على هذا القول .
و قولٌ آخر ، يقول : لا ، من قال لكم بأنّ المنطق يختصُّ بالإجابة على الخطأ في الترتيب بل يُجيبُ على السؤالين معاً ، سؤال الخطأ و الإشتباه في الترتيب و سؤال الخطأ و الإشتباه في الموادّ ، و هذا ما يأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ عندما نتكلّم في مقدِّمات البُرهان ، فإنّه هناك عندما نتكلّم في مقدِّمات البرهان سنُشير إلى المادّة أنّ هذه المعلومات لا بدّ ما هي خصائصُها ؟ و إنشاء الله في أول بحث القياس أيضاً سنُشير إلى هذه المسألة مرّة ثانية لنُبيّن للأُخوة بأنّ الحقّ مع الاتجاه الأول الذي يرى أنّ " المنطق " يتبنّى الصورة ، الترتيب ، الهيئة دون المادّة أو أنّ " المنطق : يتبنّاهما معاً أي الهيئة و المادّة معاً ؟! .
النصّ :
} المدخل
الحاجة إلى المنطق
خلق الله الإنسان مفطوراً على النطق ، و جعل اللسان آلة ينطق بها ، و لكن ـ مع ذلك ـ يحتاج إلى ما يُقوّم نُطقه و يُصلِحه ليكون كلامه على طبق اللغة التي يتعلّمها ، من ناحية هيئات الألفاظ و موادّها ، فيحتاج :
أولاً : إلى المدرّب الذي يعوّده على ممارستها .
و ثانياً : إلى قانون يرجع إليه يعصم لسانه عن الخطأ . و ذلك هو النحو و الصرف .
و كذلك خلق الله الإنسان مفطوراً على التفكير بمامنحه من قوّة عاقلة مفكرة ، لا كالعجماوات . و لكن ـ مع ذلك ـ نجده كثير الخطأ في أفكاره ، فيحسب ما ليس بعلّةٍ علّة ، و ما ليس بنتيجةٍ لأفكاره نتيجة ، و ما ليس ببرهانٍ برهاناً ، و قد يعتقد بأمرٍ فاسدٍ أو صحيحٍ من مقدِّماتٍ فاسدة ... و هكذا فهو ـ إذن ـ بحاجة إلى ما يُصحّح أفكاره و يُرشده إلى طريق الاستنتاج الصّحيح ، و يُدرّبه على تنظيم أفكاره و تعديلها { .
ـــــــــــــــــــ0
الشرح :
( خلق الله الإنسان مفطوراً على النطق ) : البحث في أنّه هل المراد من النُّطق هو كيفيّة التكلّم ، يعني القدرة على الكلام ، أو أنّ المراد من النُّطق أنّ الإنسان مدركٌ للكليّات ؟ بحثُه ـ إن شاء الله ـ موكولٌ إلى " علم الفلسفة " لا علاقة له هنا .
المهمّ ، خلق الله الإنسان مفطوراً على النُّطق ، يعني توجدُ فيه قابليّة التكلّم ، يعني هذه القابليّة للتكلّم غير موجودة في باقي الحيوانات ؟ الظاهر من هذا الكلام أنّ هذه القابليّة غير موجودة في باقي الحيوانات .
( و جعل اللسان آلة ينطِقُ بها ، و لكن ـ مع ذلك ـ يحتاج إلى ما يقوّم نُطقه ) : هذه الإشارة ـ فقط ـ للتشبيه ، أي يُريد أن يُبيّن أنّ الاحتياج إلى لمنطق من قبيل الاحتياج إلى النّحو عندما تُريد أن تتكلّم بالنّحو العربيّ الفصيح الصحيح .
( و يُصلحه ليكون كلامه على طبق اللغة التي يتعلّمها ) : و من هنا تجد أنّ المحقّقين قالوا : أنّ المنطق الأُورسطي هو ( نحو اللغة اليونانيّة ) و أنّ النّحو العربي هو ( منطق اللغة العربيّة ) و السبب : باعتبار أنّها قريبة الواحدة من الأُخرى ، و لكن واحدة منها و هي " اللغة و النّحو " تقوّم الألفاظ ، و المنطق يقوّم و يُنظّم المعاني التي تحكي عنها تلك الألفاظ .
( من ناحية هيئات الألفاظ و موادّها ، فيحتاج :
أولاً : إلى المدرّب الذي يعوّده على ممارستها ) : أي ممارسة تلك الألفاظ .
( و ثانياً : إلى قانون يرجع إليه يعصم لسانه عن الخطأ . و ذلك هم النحو و الصرف ) : أي يعصم لسانه عن الخطأ في كيفيّة الاستفادة ، و ذلك القانون الذي يعصمه يتمثّل في علمي النحو و الصرف .
( و كذلك خلق الله الإنسان مفطوراً على التفكير ) : فيما سبق بيّنّا المراد من التفكير ما هو ؟ حيث قلنا : أنّ المراد من التفكير هو : الذهاب من أُمور معلومة للكشف عن أُمورٍ مجهولة ، و هي التي تُسمّى بعملية " الفكر و التفكير " .
( بما منحه من قوّةٍ ) : من وجودٍ .
( عاقلةٍ مفكرّة ، لا كالعجماوات ) : و هي الحيوانات الأُخرى التي يدّعي المصنّف بأنّه لا توجدُ فيها قدرة التفكير .
( و لكن ـ مع ذلك ـ نجده كثير الخطأ في أفكاره ) : و معنى " كثيرُ الخطأ في أفكاره " يعني في بعض الأحيان يأخذُ نتائج ليست من المقدِّمات المؤدية إلى تلك النتائج ، هذا الخطأ الذي يقع في الفكر إمّا منشأه الخطأ في الموادّ و إمّا منشأه الخطأ في الترتيب الذي لا يُشير و استغنى المصنّف عن الإشارة إليه .
( فيحسب ما ليس بعلّةً علّة ) : أنت كثيراً من الأحيان تتصوّر أنّ هذا الوضع الذي أصابك علّته ـ مثلاً ـ نُعاق الغراب الذي نعق اليوم عندك ، فتقول : لولا هذا الغراب لما صار الذي هو كائنٌ بي الآن ، مع أنّه ـ واقعاً ـ هذا الغراب المسكين الذي نَعَقَ صباحاً ، ليس لنعيقه أي أثر في أن يكون وضعك هذا الذي أنت فيه
أو بعض الأحيان ـ أنتم ترون بعض الناس عندما تتكلّم معه يقول : أنا واقعاً لا حظّ لي فيتصوّر بأنّه لو كان له حظّ كان وضعه أفضل من الوضع الذي هو فيه ، فإذن ، يُرجِع الأمر الذي حدث فيه إلى عدم وجود الحظّ مع أنّه يحسَبُ الشيء الذي ليس بعلّة أنّه هو علّة ما حصل له ، و هذا منشأه الخطأ في التفكير و الخطأ في الاستدلال ، و إلاّ لو كان يعرف أن يستدلّ جيّداً لما وصل إلى هذه النتيجة : " إنّا وجدنا آباءنا على أُمّةٍ و إنّا على آثارهم مقتدون " و القرآن الكريم يستنكر عليهم هذا الاقتداء ، فيقول : لو كان لهؤلاء منطق و استدلال صحيح لما قالوا لنا : " إنّا وجدنا آباءنا على أُمّةْ ... " .
( و ما ليس بنتيجةٍ لأفكاره نتيجة ) : أي و يعتبر ما ليس بنتيجة لأفكاره نتيجة لأفكاره ، كالمثال الذي ضربناه لكم ، و هو : أنّ ( سُقراطٌ إنسانٌ ) و ( سقراطٌ عالم ) إذن النتيجة : ( كلّ إنسانٍ عالم ) ، و لكن هذه النتيجة مرتبطة بهذه المقدِّمات ـ سقراط إنسان و سقراط عالم ـ أو غير مرتبطة ؟ من الواضح أنّها غير مرتبطة ـ و السبب في حصول عدم الترابط هذا لأنّه حصل هناك خطأٌ في الترتيب ، خطأ في ترتيب الموادّ .
( و ما ليس ببرهانٍ برهاناً ) : أي ما ليس ببرهان يحسبه برهاناً ، من قبيل استعمال الألفاظ غير الواضحة ، لأنّه بعدُ نحن لا نعرف ما هو المرادُ من البرهان .
( و قد يعتقد ... الاستنتاج الصحيح ) : و هذه العبارات تُشير إلى أنّ المنطق يُجيبُ ، عن الترتيب فقط ، أمّا عن صحّة المادّة و عدم صحّة المادّة فلا علاقة له بالمنطق
( و يُدرّبه على تنظيم أفكاره و تعديلها ) : أي و تعديل تلك الأفكار .
النصّ :
} و قد ذكروا أنّ ( علم المنطق ) هو الأداة التي يستعين بها الإنسان على العصمة من الخطأ ، و ترشده إلى تصحيح أفكاره ، فكما أنّ النّحو و الصّرف لا يُعلّمان الإنسان النّطق و إنّما يُعلّمانه تصحيح النّطق ، فكذلك علم المنطق لا يُعلّم الإنسان التفكير ، بل يُرشده إلى تصحيح التفكير { .
ـــــــــــــــــ0
الشرح :
هنا : يريد أن يُشير إلى هذه النكتة ، و هي أنّ : المنطق يقول لي فكّر أو إذا فكرت ففكّر بهذا الطريق ، أيٌّ منهما ؟ من الواضح أنّه هو الثاني ، لأنّه هذه " فكّر " الله سُبحانه و تعالى وضعه في فطرة الإنسان ، نعم المنطق يقول : إذا أردت أن تفكّر فهكذا فكّر ، و هذا من قبيل قوانين المرور ، فقوانين المرور تقول لك : إمشي أو تقول لك إذا مشيت في السيّارة فامشِ بهذا النّحو ؟ من الواضح أنّه الثاني ، لأنّ قوانين المرور لا تقول لك : إمشِ أو لا تمشِ فأنت مخيّر في المشي أو عدم المشي ، و إنّما تقول لك : إذا أردت أن تسير في هذا الطريق فلا بدّ أن تُراعي هذه القوانين حتّى لا تقع في الاصطدام ، و هنا أيضاً المنطق لا يقول للإنسان : " فكّر " و إنّما يقول له : إذا أردت أن تفكّر و تأخذ نتيجة من التفكير فهذه هي الطريقة الصحية للتفكير ، فلهذا قال :
( فكما أنّ النحو و الصّرف لا يُعلّمان الإنسانَ النّطق و إنّما يُعلّمانِهِ تصحيح النّطق ، فكذلك علم المنطق لا يُعلّمُ الإنسانَ التفكير ، بل يرشده إلى تصحيح التفكير ) أي كيف يكون التفكيرُ صحيحاً حتّى يُنتج نتيجةً صحيحة .
النصّ :
} إذن ، فحاجتنا إلى المنطق هي تصحيح أفكارنا . و ما أعظمها من حاجة ! و لو قلتم : إنّ الناس يدرسون المنطق و يخطأون في تفكيرهم فلا نفع فيه . قلنا لكم : إنّ الناس يدرسون علمي النّحو و الصّرف ، فيخطأون في نُطقهم ، و ليس ذلك إلاّ لأنّ الدارس للعلم لا يحصل على ملكة العلم ، أو لا يُراعي قواعده عند الحاجة ، أو يخطأ في تطبيقها ، فيشذّ عن الصّواب { .
ــــــــــــــــــ0
الشرح :
هنا يوجد إشكال ، و هو : أنّ الناس يدرسون المنطق و يخطأون في طريقة الاستدلال فما هو السبب ؟
إذا كان المنطق هو تعليم كيفيّة التفكير و الاستدلال الصّحيح فلماذا إذن نجد أنّ هذه المغالطات و أنّ هذه المناقشات و أنّ هذه المخالفات موجودة بين العلماء ؟
يقول : الجواب واضحٌ على هذا ، أولاً نحن ننقُضُ عليكم أنّ كثيراً ممّن يدرسون النّحو و لكن يخطأون في الكلام ، و هذا هو الجواب النقضي ، و كما يقولون أنّ النّقض لا يحلُّ المشكل و إنّما يزيد المشكلة إشكالاً و إلاّ فليس يحلّ المشكل ، لأنّه نفس الإشكال نحن نذكُرُه في النّحو . إنّما الكلام في الحلّ ما هو ؟ فنقول : الحلّ هو : أنّ المنطق لا يُخطِأ و لكنّ الذي يستعملُ المنطق قد لا يستعمله بالطريق الصّحيح فيكونُ مخطئاً ، و من هنا قالوا : " أنّ المنطق معصوم و المستعملِ للمنطق قد يُخطِأ و قد لا يُخطِأ " .
و إلاّ هذه القوانين التي ذُكِرَت في المنطق لو رُوعيت جميعُها على النّحو المناسب لها ، و بدقّة ، و مائة بالمائة ، و مادّةً و صورة فهل يُمكن بعد ذلك الخطأ أو لا يُمكن الخطأ ؟ من الواضح أنّه يستحيل و يمتنع الخطأ ؛ و لكن أنتـ جنابك ـ قد تُخطِأُ في الترتيب و قد تُخطِأُ في المادّة ، و الأكثر يكون الخطأ في الموادّ و إلاّ فإنّ ترتيب المواد قد يكون الإنسان بها قويّاً ، و من هنا وُجِدَ " فنُّ المغالطة " لأنّ فنّ المغالطة إنّما وُجِدَ لغرض أن يُبيّن أنّك أين تشتبهُ في الموادّ ، هذه المادّة صحيحة أو أنّها خاطئة ، هذا هو فنّ المغالطة .
و الحمدُ لله ربِّ العالمين .
المدير العام- Admin
-
عدد المساهمات : 501
نقاط : 2147483647
عضو مميز : 1
تاريخ التسجيل : 09/02/2010
العمر : 44
مواضيع مماثلة
» دروس في علم المنطق ـ المحاضرة الخامسة
» دروس في علم المنطق ـ المحاضرة السابعة
» دروس في علم المنطق ـ المحاضرة الثالثة
» دروس في علم المنطق ـ المحاضرة السابعة
» دروس في علم المنطق ـ المحاضرة الثالثة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء يوليو 08, 2014 6:16 pm من طرف السيد عبد الحسين الاعرجي
» زواج المتعة
الأربعاء فبراير 09, 2011 11:07 am من طرف حسين
» الى من يهمه الامر
الخميس نوفمبر 18, 2010 2:26 am من طرف احمد علي حسين العلي
» جبل يضع البيض في الصين
الأربعاء نوفمبر 10, 2010 9:31 am من طرف زائر
» لى من يهمه الامر
الأربعاء نوفمبر 03, 2010 9:30 am من طرف سمير محمود الطائي
» زرقاء اليما مه
الأربعاء سبتمبر 29, 2010 5:17 am من طرف سمير محمود الطائي
» الأخت المؤ منه ومشا كل العصر
الثلاثاء سبتمبر 28, 2010 1:59 am من طرف سمير محمود الطائي
» أعجوبة صورة الضحى
الثلاثاء سبتمبر 28, 2010 1:48 am من طرف سمير محمود الطائي
» با لحسين معا دلتي موزونه
الإثنين سبتمبر 27, 2010 6:30 pm من طرف سمير محمود الطائي