مواضيع مماثلة
لائحة المساحات الإعلانية
لإضافة إعلاناتكم الرجاء
مراسلتنا على البريد الإلكتروني التالي
بحـث
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 90 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 90 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 242 بتاريخ الأحد ديسمبر 01, 2013 9:22 am
احصائيات
هذا المنتدى يتوفر على 57 عُضو.آخر عُضو مُسجل هو yaasaay فمرحباً به.
أعضاؤنا قدموا 563 مساهمة في هذا المنتدى في 551 موضوع
تسجيل صفحاتك المفضلة في مواقع خارجية
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
المدير العام | ||||
عاشقة الزهراء | ||||
سمير محمود الطائي | ||||
قدوتي زينب ع | ||||
الغضب الصدري | ||||
Aorn | ||||
يا صاحب الزمان | ||||
حسين | ||||
احمد علي حسين العلي | ||||
السيد عبد الحسين الاعرجي |
دروس في علم المنطق ـ المحاضرة الثالثة
صفحة 1 من اصل 1
دروس في علم المنطق ـ المحاضرة الثالثة
بسم الله الرحمن الرحيم
و به نستعين
قال الإمام الصّادق ( عليه أفضلُ الصّلاة و السّلام ) في قوله تعالى : " و لله الحُجّةُ البالغة " : إنّ الله تعالى يقولُ للعبد يوم القيامة : عبدي أكُنت عالما ؟ فإن قال نعم ، قال له : افلا عملت بما علمت " فإنّ العلمُ يكونُ حُجّةً على العبد يوم القيامة " و إن قال : كنتُ جاهلاً ، قال له : أفلا تعلّمت حتّى تعمل " .
إذن يُخصَمُ هذا العبد يوم القيامة أو لا يُخصم ؟ نعم يُخصَم ، و إذا كان الأمر كذلك فلا العاملُ بلا علم له قيمة يوم القيامة و لا العالمُ بلا عمل له القيمة يوم القيامة ؛ و إنّما العالمُ مع العمل له القيمة يوم القيامة الذي لا يُخصَمُ من قبل الله سُبحانه و تعالى . " فيخصمه " ، و ذلك الحُجّةُ البالغة في قوله تعالى : " و لله الحُجّةُ البالغة " .
قال الشيخ المظفّر ( رحمة الله تعالى عليه ) : ( العلمُ في ... ) : قلنا أنّ الله تعالى خلق الإنسانَ مفطوراً على التفكير ، مستعدّاً لتحصيل المعارف بما أُعطي من قوّةٍ عاقلةٍ مفكرةٍ يمتازُ بها عن العجماوات .
بالأمس انتهينا من بيان هذه و هي : أنّ العلم الذي يقع الكلام عنه هنا ، أولاً هو العلمُ الإنفعالي في قبال العلم الفعلي ، و بيّنا ما هو المراد من الفعلي و ما هو المراد من الإنفعالي ، و ثانياً أنّ العلم الذي يُذكرُ هنا هو العلمُ الحصوليّ في قبال العلم الحضوريّ و بيّنا ـ بحمد الله تعالى ـ في الأمس ما هو الحصوليّ و ما هو الحضوريّ ، و ذكرنا بنحو الإجمال بأنّ العلم الحضوري هو حضور و وجود نفس الشيء عند العالم بخلافه في العلم الحصولي فإنّه يحضُر صورة الشيء عند العالم لا نفس وجوده الخارجيّ ، هذا أولاً ، و ثانياً : أنّه في العلم الحصوليّ ـ دائماً ـ الصورةُ شيءٌ و الواقعُ الخارجيّ شيءٌ آخر ، و لكنّه بخلافه في العلم الحضوريّ فإنّه لا يوجدُ عندنا صورةٌ و واقعٌ خارجيّ بل لا يوجدُ عندنا إلاّ الواقع الخارجيّ ، و أضفنا إلى ما ذُكِرَ في الكتاب بعض النكات التي انتهينا إليها من أنّ العلمَ الذي يقعُ الحديث عنه في الكلام ، في الفلسفة ، في المنطق ، و في كلّ العلوم إنّما هو العلم الحصوليّ دون العلم الحضوريّ ؛ ـ طبعاً ـ هناك فروقٌ أُخرى نُرجعُها إلى دراساتٍ أُخرى .
و لكن ـ أيضاً ـ لا بأس أن يعلموا الأُخوة أنّ الله تعالى علمُهُ بما عداه فهو علمٌ حضوريّ و ليس علماً حصوليّاً ، يعني ( الله ) تعالى لا يعلمُ الأشياء بصورٍ عنها كما نحن نعلمُ الأشياء بصورٍ عنها ، الله تعالى يعلمُ الأشياء بحضُورها عنده كما نحن نعلمُ الألمَ عندما نتألّم ، ففي حالة الألم نفسُ الألم حاضرٌ عندنا و ليس صورةٌ من الألم حاضرة عندنا ، كذلك الله تعالى عندما يعلمُ عالم الإمكان ، كلُّ ما سواه يعلمُهُ بالعلم الحضوريّ لا أنّه يعلمُهُ بالعلم الحصوليّ ، نحن ذكرنا لكم بالأمس أنّ العلم الحضوريّ لا يوجدُ فيه خطأ ، فالله ـ إذن ـ للمجال له للخطأ فيه ، أي ليس المعنى أنّ الله يُمكن أن يخطأ و لكنّه لا يخطأ ، لا ، ليس هذا المراد ، أساساً هي سالبة بانتفاء الموضوع ، أي لا مجالَ للخطأ فيه ، و نحن قلنا بالأمس أنّ العلم الحضوريّ ليس فيه مجال للغفلة ، إذن الله تعالى يعلمُ الأشياء ، يغفلُ عنها في آنٍ أو لا يغفلُ عنها ؟ لا يغفلُ عنها ، بخلاف أنا و أنت فقد نُخطِأ و قد نغفل ، و كلّما أخطأنا احتجنا إلى علم المنطق حتّى يُركّبَ لنا المعلومات للوصول إلى كشف المجهولات بنحوٍ لا نخطأ من حيث الهيئة و من حيث المادّة . هذا تقدّم بيانُهُ بالأمس .
الآن ـ هنا ـ عندما يقول الماتن ، المصنّف ( رحمة الله تعالى عليه ) : ( العلم ) ، إذن اتّضح أنّ مراده العلم الحصوليّ ، فلا يُشكِلُ ـ بعدُ ـ أحدٌ على المصنّف أنّ التعريف الذي ذكرته في الآخر هذا التعريفُ غيرُ تامٍّ لأنّه لا يشمل العلم الحضوريّ كما فعل البعض ، فبعضٌ أشكلَ على الشيخ المظفّر فقال : هذا التعريف الذي ذكرته مختصٌّ بالعلم الحصوليّ و لا يشمُل كلّ أقسام العلم ؟ ! فالجواب على الاشكال له يكون : أنّ الشيخ المظفّر أيضاً هو بصدد تعريف العلم الحصوليّ و ليس بصدد بيان مطلق العلم الأعمّ من الحصوليّ و الحضوريّ حتّى تقولون أنّ الفعلَ ليس شاملاً لهما .
فما هو العلم عندما نقول : هذا علم ، و كيف يحصلُ العلم عند الإنسان ، يعني ما هي الوسائل التي من خلالها يُحصِّلُ الإنسانُ علماً ؟
طبعاً ، لم يُخلَق أيّ واحدٍ منّا و هو مالكٌ لما يعلم ، الآن مجموعة من المعلومات موجودة في أذهانكم ، أنتم عندما خُلقتم ، خرجتم من بطون أُمّهاتكم كنتم تعلمون شيئاً من هذه المعلومات أو لا تعلمون ؟ من الواضح أنّه بالوجدان و لا نحتاج إلى دليل أنّنا لم نكن نعلم شيئاً منها و من هنا احتجنا إلى التعلّم و التعليم و الدراسة و المطالعة و و و ... إلى غير ذلك حتّى نحصّل على المعلومات ؛ و من هنا يأتي هذا السؤال : ما هي الطرق لتيسير الحصول على المعلومات عند الإنسان ، من أيّ طريقٍ يُحصِّلُ الإنسانُ معلوماته و علومه ؟
هنا توجد نظريّات متعدّدة ، و لكنّه المصنّف ـ رحمة الله عليه و هو الشيخ المظفّر ـ يبني على النظريّة المشهورة عند حُكماء و فلاسفة المسلمين و هي النظريّة الأُورسطيّة .
النظريّة الأُورسطيّة :
ــــــ0
هذه النظريّة تقول : أنّ الإنسان خُلِقَ و هو لا يملكُ أيَّ علمٍ و أولّ ما يُحصِّلُ الإنسان العلوم يُحصِّلُها عن طريق الحواسّ ( الباصرة / السامعة / الشامّة / الذائقة / اللامسة ) هذه الحواسّ الظاهرة ، و توجد أيضاً عندنا حواسٌّ باطنة ، و لكنّ أول ما يرتبط الإنسان المولود ـ الطفل ـ إنّما يرتبطُ بالعالم الخارجيّ من حلال حواسّه ، و هذه الحواسّ تنقلُ إليه مجموعة من الانطباعات ، يعني عندما يضع يده على شيءٍ حارّ يحسُّ بنحوٍ من الاحساس ، و عندما يضع يده على شيءٍ بارد يحسُّ باحساسٍ آخر ، و الآن هو لا يستطيع أن يُعبّر أنّ هذا حارّ أو هذا بارد لأنّه إلى الآن لا يعرفُ الألفاظ و لا يعرفُ الكلام و لكن احساساته تختلف أو لا تختلف ؟ نعم تختلف ، و كذلك عندما تضع يده على شيءٍ خشن أو ناعم أو تضع في فمه طعام حلو أو طعام مرّ لكلّ واحدٍ من هذه عنده احساس يختلف عن الآخر ، إذن ، أول ما يرتبط بالعالم الخارجيّ يرتبط من خلال حواسّه و هذه الحواسّ تنقل له صور الأشياء و انطباعاته من الأشياء ، و هذه الانطباعات بعد ذلك سيضعُ لها الفصل فيقول : هذا حلوٌ ، هذا حارٌّ ، هذا باردٌ ، هذا نورٌ ، هذه ظلمةٌ ... و هذا ليس معناه أنّه لم يكن يعرفُ النور و الظلمة ، و إنّما الطفل يعرف النور و الظلمة و لكن قد تُعطي لهذه المسميّات أسماء أُخرى و ليس تريد أن تبيّن المسميّات ، نعم في مرحلة لاحقة تُضيفُ إليه أسماء و مسميّات و لكنّه ىفي المرحلة الأُولى ارتباطه بالواقع الخارجيّ عن طريق الحواسّ ثمّ توضع له الألفاظ و هذه هي المرحلةُ الأُولى التي نُسمّيها " الحسّ " أو " العلم الإحساسي " و لكن هذه مختصّةٌ بالإنسان أو توجدُ في كلِّ موجودٍ حيٍّ له علم و له شعور ؟ من الواضح أنّها ليست من مختصّات الإنسان ، بل توجد في البقر و توجد في الغنم و توجدُ في باقي الحيوانات ، أمّا توجدُ في النباتات أو لا توجد فالنباتات خارجة عن محلّ كلامنا ، المهمّ أنّها موجودٌ في باقي الحيوانات أيضاً .
مرحلة أُخرى ينتقلُ إليها الموجود الحيّ : هذا الطفل ـ نحن نتكلّم في الطفل ـ عندما يحسّ فبالإضافة إلى الصور أخذها يستطيع أن يتخيّل تلك الصور و إن لم تكن موجودة أمامه ، يعني ـ مثلاً ـ أنت عندما تقول له : أنا أشتري لك اللعبة الكذائيّة فهو يفرحُ لها ، و لكن فرحه هذا بماذا ، هذا الطفل أو الموجود الحيّ إذا لم يكن قد تصوّر ذلك الشيء فهل يستطيع أن يفرح بذلك الشيء الذي تقوله أو لا يستطيع ؟ من الواضح أنّه إذا لم يتصوّره لا يستطيع أن يفرح به ، مع أنّ تلك اللعبة غير موجودة الآن بين يديه ، فمن هنا يتّضح أنّ هذا الطفل يملكُ صورة في ذهنه و إن لم يكن الواقع الخارجيّ موجوداً عنده ، إذن مرحلة من المراحل أنّ هذا الطفل ما زال الشيء أمامه طبعاً يتصوّر الصورة و بعكس ذلك لا يستطيع أن يتصوّرها ، و لذا أنتم تجدون أنّ الطفل في مراحل مبكّرة من عمره إذا كانت أُمّه أمامه فلا يبكي و لكن بمجرّد أن تغيب من أمامه و إن كانت في غرفة أُخرى و قريبة عنه فإنّه يبكي ، و هذا معناه : أنّ الوجود يساوي عنده أن يكون الشيء أمامه و إذا لم يكن أمامه فيساوي عنده العدم ، لأنّه لا يستطيع أن يتصوّر أنّه موجود و لكن ليس أمامه ، فإذن ، مرحلة من مراحل الوجود في الطفل هو أنّه ـ فقط ـ يستطيع أن يرى الأشياء و تنعكس صور الأشياء في ذهنه ما دامت تلك الأشياء موجودة أمامه ، و هذا كما قلنا نسمّيه بـ " العلم الإحساسيّ " و لكن مرحلة مترقّية من هذه و هو أنّ هذا العلم الإحساسيّ يستطيع أن يحتفظ به الطفل ، يعني لو أغمض عينَهُ يستطيع أن يتصوّر نفس تلك الصورة و إن لم يكن الواقع الخارجيّ مُحسّاً له بأحد الحواسّ الخمس ، و هذ العلم نُسمّيه بـ " العلم الخياليّ " أو " الخيالي " . هذا الذي نقوله نُسميه " متخيّلة ، متصرِّفة " أنتم تشاهدون عندما يتكلّم شخص مع شخص آخر فيقول له : هذا خيال ، فـ ( هذا خيال ) المقصود من التحدث بين الاثنين هو ليس ( الخيال ) الذي نقصده و نبيّنه هنا .
المراد من ( الخيال العلميّ )
ـــــــــــ
الخيال : هو تلك الصورة الموجودة في الذهن و إن لم يكن واقعها الخارجي موجوداً أمام ذلك الإنسان .
أنت ـ جنابك ، الآن تذهب إلى حديقة جميلة و كذا كذا أوصافها ثمّ بعد ذلك تذهب إلى البيت فهل تستطيع أن تتصور نفس صورة تلك الحديقة في ذهنك أو لا تستطيع ؟ نعم تستطيع ، فإذن ، هذا التصوّر لهذه الحديقة و هي غير موجودة الآن بالفعل في البيت عندما تتصورها ، هذه نسميها بـ " العلم الخيالي " يعني صورة الشيء من غير وجود واقعها الخارجي أمامك الآن لأنها معدومة الوجود الآن و لكن صورة الحديقة تستطيع أن تتصورها في ذهنك و ليس نفس الشيء ـ الحديقة ـ .
مثال آخر :
هذا الكتاب أنظر إليه الآن لأنّه موجود أمامي فهذا علم " احساسي " و لكن أنا الآن أُغمِض عينيّ فصورة الكتاب موجودة في ذهني و أستطيع أن أتصورّ صورة الكتاب ، فهذا نُسميه " علم خيالي " .
إذن ، الصورة إذا كانت مرتبطة بالخارج نسميه " علم حسي " أو " حسي " و أمّا إذا كانت الصورة موجودة و منقطعة عن الخارج نسميه " علم خيالي " أو " خيالي " ، و لكن هذه الصورة موجودة في الحيوانات أو غير موجودة ؟ نعم موجودة في الحيوانات ، ما الدليل على وجودها ؟
الدليل على وجود قوّة الخيال في الحيوان أيضاً :
ــــــــــــــــ0
نقول : موجودة في الحيوانات بدليل : أنّ الحيوان في الصباح عندما يخرُج من مكانه لو تتركه في المساء فهل يرجع إلى نفس المكان أو لا يرجِع ؟ نعم يرجع إلى مكانه ، فإذن إذا كانت الصورة ـ صورة المكان الذي خرج منه في الصباح ـ غير موجودة في ذهنه فإنه لا يستطيع أن يرجع إلى نفس مكانه في الصباح ، فلذلك تجد أنّ الحيوانات تقطع آلاف الكيلو مترات للوصول إلى مكانٍ قد تركته قبل أشهر ، و هذا معناه : أنّ صورة المكان موجودة في ذهن الحيوان ، فلهذا يرجعُ إليها ، و هذه المرحلة أيضاً مشتركةٌ بين الإنسان و بين غير الإنسان .
إلى الآن الإنسان لم يتميّز من الحيوانات ، من العجماوات التي لا تستطيع النُطق ، و عندنا مرحلة ثالثة ، و هي " العلمُ الوهمي " ـ التفتوا جيداً ـ :
المراحل الأولى و الثانية متفقة بين الفلاسفة و المناطقة ليس هنا فيها بينهم اختلاف ، و لكن الاختلاف بينهم في المرحلة الثالثة فقط ، و المصنّف الشيخ المظفر ـ رحمة الله تعالى عليه ـ يذكر هذه المرحلة الثالثة هنا ، فما هو العلم الوهمي ؟
المراد من " العلم الوهمي " :
ـــــــــــ0
الوهم هنا ليس المراد منه هذا الذي نصطلح هذه التوهمات ، لا ، ليس مرادنا منه هذا ، و إنّما مرادنا من " الوهم " هنا : مفهوم من المفاهيم و لكنّه جزئي و ليس كليّ ، و لسائل يسأل : إذا كان مفهوم " الوهم " مفهوم جزئي فإذن يصدق أيضاً على الخيال ؟! الجواب : لا ، هذه يقولونها في المعاني فقط ، و مثال ذلك :
أنت جنابك مرّةً تُدركُ معنى " الحبّ " أو " البغض " يعني يوجد في ذهنك معنى للحب و معنى للبغض ... ف،ت في الوقت الذي تعرف ما هو الحب تعرف أيضاً ما هو البغض لأنّ معانيها موجودة في ذهنك ، و لكن " حُبُّ أو بغض الشخص الفلاني " هذا الحب و البغض إذا أُضيفا إلى شخصٍ معيّن فهذا نسميه " علم وهمي " و هو اصطلاح ، و هو أنّ مفهوماً من المفاهيم و هو مفهوم الخوف ، و لكن الخوف له مفهوم عندك أم لا ؟ نعم له مفهوم فأنت تعرفُ معنى الخوف ، و لكن الخوف من " السّبُع " هو خوف جزئي و هذا الجزئي نسميه " علم وهمي " و لكن هذا الخوف موجود في الحيوانات الأُخرى أو غير موجود ؟ نعم موجود ، لأنّه تجد أنّ بعض الحيوانات تخاف البعض الآخر أو لا تخاف ؟ نعم تخاف ، إذن يتّضح أنّ هذا العلم الوهمي ـ أيضاً ـ ليس الذي يُميّز الإنسان عن غير الإنسان بل هو موجود أيضاً في غير الإنسان كذلك .
هذه آخر مرحلة ـ كما يقول المصنّف ـ يشترك فيها الإنسان مع الحيوان ، فهنا ـ غي هذه المرحلة ـ يبقى الحيوان فيها و لا يتجاوزها ، و أمّا الإنسان فلا ، فإنّه لا يتوقف عند هذه المرحلة بل يترقّى إلى مرحلة جديدة ، هي " قوّةُ التعقّل " : احساس ، خيال ، وهم ، و عقل ؛ إذن تبيّن عندما نقول هنا " عقل " ليس مرادنا من " عقل " مطلق الإدراك ، و إنّما مرادنا إدراكُ الخاصّ ، و لكن هذا العقل ما هي ميزتُه ؟ ميزته أن يُدرك الأُمور الكليّة ، إذا اتّضح هذا نقول : العلم الإحساسي كليّ أو جزئيّ ؟ جزئيّ لأنّه مرتبط بهذه الصفة ، العلم الخيالي أو الخياليّ كليّ أو جزئيّ ؟ جزئي لأنّه صورةُ شيءٍ معيّن ، العلمُ الوهمي كليّ أو جزئيّ ؟ جزئيّ لأنّه مرتبط بالعداوة أو الصداقة و بالحبّ و البغض ، أي مرتبط بهذا الشيء ( العداوة أو الصداقة أو الحب أو البغض ) ، أمّا المفاهيم الكليّة فهي ليست بجزئيّة ، من قبيل ـ مثلاً ـ نفسِ مفهوم العداوة ، فأنت في ذهنك يوجد انطباعات من هذا المفهوم " مفهوم العداوة " أو لا ؟ يعني أنا عندما أقولُ لك " عداوة " هل يتبادر إلى ذهنك معنىً من المعاني أو لا يتبادر ، عندك انطباع من هذا المفهوم أو ليس عندك ؟ من الواضح أنّه يوجدُ عندك انطباعٌ ، إذن ، هذا المفهوم جزئيّ أو كليّ ؟ من الواضح أنّه كليّ ، و ليس أنّه مرتبط بهذا الموجود و بذاك الموجود .
و من هنا قالوا : أنّ الإنسان يتميّزُ عن غيره من الحيوانات بـ " إدراك الكليّات " لأنّ باقي المراحل ـ كما قلنا ـ مشتركةٌ بين الإنسان و غير الإنسان ، فالذي يُميّز الإنسان عن غيره هو " إدراكُ الكليّات " و هذه الكليّات هي التي يقعُ فيها الخطأ و الصحة و الصواب ، و يقعُ فيها التفسيرُ و الاستدلالُ و غيرُ ذلك من الأمور و إلاّ فلو لم يكن هذا ـ يعني لو لم يكن للإنسان هذه المرحلةُ الرابعة ـ فإنّه أساساً لما احتجنا إلى علم المنطق .
إذن علم المنطق نحتاج إليه في هذه المرحلة و هي مرحلةُ الاستدلال ، مرحلةُ التفكير ، مرحلة إدراك الكليّات .
إذن ، عندما نقول : إنّ الله جعل الإنسان عالماً ، يعني عالماً بالفعل أو فيه قدرة على العلم ـ قابليّة أن يعلم ـ ؟ من الواضح أنّ هذا من قبيل جنابك تقول " الإنسانُ ضاحكٌ " فهل دائماً هو ضاحكٌ ؟ طبعاً لا بل أنّه له قابليّةٌ يستطيعُ بها أن يُحقّق الضحك ، و هنا أيضاً عندما نقول " الإنسانُ مفكّرٌ ـ الإنسانُ عاقلٌ " ليس مرادنا أنّه عاقلٌ بالفعل ، مفكّرٌ بالفعل ، بل معناه أنّ الله ـ سُبحانه و تعالى ـ زوّده بقدرةٍ يستطيعُ بها أن يكون مفكّراً بالفعل ، وأن يكون عاقلاً بالفعل ، يعني مدركاً للكليّات بالفعل .
إذن ، السؤال واضح ، و الآن أريد الجواب ، و هو : أنّ الإنسان يوجدُ عاقلاً بالفعل أو يوجدُ عاقلاً بالقوّة ؟ يوجد عاقلاً بالقوّة ، و لكن يأتي هذا السؤال : بماذا يكون الإنسان عاقلاً بالفعل ؟ الجواب : يكون عاقلاً بالفعل إذا أدرك الكليّات ، و أمّا إذ لم يُدرك الكليّات فهو عاقل بالفعل لا بالقوّة ، و لكن ـ نحن قلنا ـ أنّ إدراك الكليّات هي التي تميّز الإنسان عن غيره ، و يأتي هنا هذا السؤال : أنّ إدراك الكليّات موجودة بالفعل أو أنّه بالعلم توجد ـ الكليّات ـ بالفعل ؟ الجواب : أنّها بالعلم موجودة بالفعل ، جنابك إذا لم تكتسب العلم فهل تُدرك الكليّات أو لا تُدركها ؟ طبعاً إذا لم تُدركها لا تكون إنساناً لأنّه نحن قلنا أنّ الإنسان إنّما يتميّز عن غيره من الحيوانات بـ " إدراك الكليّات " فإذا لم يُحصِّل الكليّات بالفعل يكون عندها إنساناً بالفعل أو إنساناً بالقوّة ؟ نقول : إذا لم يُحصِّل الكليّات بالفعل فهو حيوانٌ بالفعل و إنسانٌ بالقوّة ، فالإنسان فرقُهُ عن الحيوانات الباقية أنّ تلك الحيوانات لا تستطيع أن تكونَ إنساناً بالفعل ، فهذا ـ الإنسان الذي لم يُحصِّل الكليّات بالفعل ـ حيوانٌ بالفعل و لكن يستطيعُ أن يكونَ إنساناً بالفعل .
إذن ، لا يتبادر إلى ذهن الأُخوة أنّه بمجرّد أنّه يمشي على اثنين فهو إنسان ، لا ، هو ليس بإنسان و لكن يُمكنه أن يكونَ إنساناً .
هذه الروايات التي قالت أنّ الإنسان أفضل من الملائكة ، هل المقصود منها أنّ مطلق الإنسان أفضل من الملائكة ؟ نقول : لا ، و إنّما يُمكنه أن يكون أفضل من الملائكة و ليس أنّه الآن هو أفضل من الملائكة ، و إلاّ أيُّ إنسانٍ عاقل يقول : زيد من الناس ـ العاصي ، الفاسق ، الفاجر ـ هو أفضل من جبرئيل ـ عليه السلام ـ نعوذ بالله من ذلك ، فأنت لا ترى عاقلاً يقول بذلك ، نعم هذا الإنسان يستطيع أن يترقّى في مجالات الكمال و يكون أفضلُ من جبرئيل كما في النبيّ ـ صلّى الله عليه و آله و سلّم ـ و أئمّة أهل البيت ـ عليهم أفضل الصّلاة و السّلام ـ .
إذن ، الإنسان بالعلم يكونُ إنساناً بالفعل ، و إلاّ بمجرّد أنّه يولد و يمشي على اثنين فهذا لا يجعلُ منه إنساناً بالفعل بل بالعلم يكون إنساناً بالفعل ، فلهذا تجدون هذه التأكيدات الواردة عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم أفضل الصّلاة و السّلام ـ في العلم ، في العلم ، يعني يريدونك أن تكون إنساناً بالفعل لأنّه قبل العلم أنت حيوانٌ بالفعل و إنسانٌ بالقوّة أي يُمكنُك أن تكونَ إنساناً ، فلهذا تفهمون هذه الرواية عن أمير المؤمنين ـ عليه أفضل الصّلاة و السّلام ـ عندما يقول : " الصورةُ صورةُ إنسان و القلبُ قلبُ حيوان " و الشاهد على أنّ إنسانيّة الإنسان ليس بمشيه على اثنين أنّ الإنسان لو قُطِعَت رجلاه و مشى على أربع فإنّه يبقى إنسان ، فإذن ، إنسانيّتُه ليس بالمشي على اثنين و إنّما إنسانيّتُه بالعلم ، بإدراك الكليّات ، بالعاقلة ، بالتفكير ، بالمرحلة الرابعة من العلم ، و إلاّ لو لم تتحقّق تلك المرحلة الرابعة و هي " القوّة المفكّرة " و " القوّة العاقلة " و لم تخرُج من القوّةِ إلى الفعل فلا يكونُ الإنسانُ إنساناً بالفعل .
قال : ( تمهيدٌ : إنّ الله خلق الإنسان مفطوراً على التفكير ) : فهنا ـ التفتوا جيّداً ـ يعني أنّه مفكّرٌ بالفعل أو أنّه يُمكنه أن يكونَ مفكّراً بالفعل ؟ الجواب : أنّ قوله " مفطوراً على التفكير " ليس معناه أنّ الإنسان مذ وُجِدَ فهو مفكّرٌ ، و إنّما معناه أنّ الله تعالى جعل فيه قوّة يستطيع أن يكون مفكّراً بالفعل و إلاّ فإنّ الإنسان في أول وجوده ـ الطفل ـ ليس مفكّراً بالفعل ، و الدليل على ذلك أنّك تستطيع أن تعلّمه الأشياء و يفهم منك الكلام ، بل يُمكنه أن يرقى مدارج الكمال ليكون مفكّراً بالفعل ، هذه الخصوصيّة الأُولى . فلهذا بعد قوله ( مفطوراً على التفكير ) قال :
( مستعداً ) : و معنى ذلك أنّه ليس مفكّر بالفعل بل فيه استعدادٌ لتحصيل المعارف ، و ليس أنّه وُجِد و معه كلُّ المعارف و كلّ المعلومات .
قال : ( بما أُعطي من قوّةٍ عاقلة مفكّرةٍ ) : أي بما زوّد بهذه القوّة التي يستطيع أن يستخدمها لاكتساب المعارف ، و هذه القوة العاقلة المفكّرة ::
( يمتازُ بها عن العجماوات ) : عن باقي الحيوانات كالبقر و الغنم و النمل و نحو ذلك .
( و لا بأس ببيان موطن هذا الإمتياز ) : نحن قلنا أنّ الحيوان ـ الإنسان ـ يمتاز عن باقي العجماوات ، و لكن في أيّ مرحلة يمتاز ، في الإحساس ؟ لا ، في الخيال ؟ لا ، في الوهم ؟ لا ، إذن أين يمتاز ؟ يمتاز في التعقّل الذي هو إدراك الكليّات .
( من أقسام العلم الذي نبحث عنه ، مقدّمة لتعريف العلم ، و لبيان علاقة المنطق به ـ أي بالعلم ـ ) : و قد اتّضحت علاقة المنطق بالعلم ، لأنّ المنطق يحاول أن يُصحّح ذلك الخطأ الذي في الكليّات ، في التفكير ، و من هنا نحن عرّفنا المنطق فيما سبق بأنّه : " العلمُ الذي يتبنّى تصحيح أفكارنا " هذه علاقة العلم بالمنطق .
النصّ :
} 1- إذا ولد الإنسان يولد و هو خالي النّفس من كلّ فكرة و علم فعلي ، سوى هذا الاستعداد الفطري ، فإذا نشأ و أصبح ينظر و يسمع و يذوق و يشم و يلمس ، نراه يحسّ بما حوله من الأشياء ، و يتأثر بها التأثر المناسب ، فتنفعل نفسه بها ، فنعرف أنّ نفسه التي كانت خالية أصبحت مشغولة بحالة جديدة نسميها ( العلم ) { .
ـــــــــــــــــ0
الشرح :
( إذا ولد الإنسان ولد خالي النفس من كلّ فكرة ) : أي خالٍ من كل علم حصولي لا أنّه خالي النفس من أيّ علمٍ حتّى و لو كان علماً حضوريّاً .
( و علمٍ فعليٍّ ) : يعني بالفعل لا يوجد عنده شيءٌ ، نعم بالقوّة يُمكن أن يوجد عنده شيءٌ .
( سوى هذا الاستعداد الفطري ) : أي ـ فقط ـ توجد عنده هذه القدرة ـ الاستعداد الفطري ـ على أن يكون مدركاً للكليّات .
( فإذا نشأ و أصبح ... بما حوله من الأشياء ) : حيث هنا يبدأ ارتباطه بالعالم الخارجي من خلال هذه الحواسّ ، ـ التفتوا جيداً ـ :
إذا فقد حسّاً فإنه يكون قد فقد طريقاً من طرق أو طرائق المعرفة ، فإذا فقد حسّين فقد طريقين ، و إذا فقد ثلاثة فقد ثلاثة طرق ، فإذا فقد أربعة ، أو فقد خمسة ، فهل يبقى له هناك طريق إلى المعرفة ؟ لا ، و هذا هو معنى القول المنسوب إلى أرسطو : " من فقد حسّاً فقد علماً " لأنّه هو من أيّ طريق يُحصّل المعلومات ؟ يُحصّلُها عن طريق الحسّ ، عن طريق هذه الحواسّ فإذا سُلِبَت فإنّه ـ عندها ـ لا مجال للعلم و لا لتحصيل المعارف و المعلومات .
( و يتأثّرُ بها التأثّر المناسب ) : فعندما يضع يده على الحرارة يشعر و يحسّ بنوع من التأثّر ، و عندما يضع يده على البرودة يحسّ بتأثّر آخر .
( فتنفعل نفسه بها ) : أي بهذه الأشياء التي نحسّ بها ، و نحن فيما سبق قلنا بأن فعلها فعل انفعالي .
( فنعرفُ أنّ نفسه التي كانت خالية ) : كالصفحة البيضاء إن صحّ التشبيه .
( أصبحت مشغولة بحالة جديدة نسميها " العلم " ) : أي بعد الإرتباط بالخارج بدأت تمتلأ ـ أي هذه النفس الخالية ـ كالسبورة ـ من باب المثال فقط و إن كان يُقرّبُ من ألف جانب ـ أي كانت صفحة بيضاء و الآن هذه العلوم بدأت تنتقشُ و تنطبعُ فيها ، و هذه الحالة نسميها ( العلم ) في قبال الحالة السابقة التي هي ( الجهل ) .
النصّ :
} و هي العلم الحسي الذي هو ليس إلاّ حسُّ النفس بالأشياء التي تنالها الحواسّ الخمس : ( الباصرة ، السامعة ، الشامة ، الذائقة ، اللامسة ) . و هذا أول درجات العلم ، و هو رأس المال لجميع العلوم التي يحصل عليها الإنسان ، و يُشاركه فيه سائر الحيوانات التي لها جميع هذه الحواسّ أو بعضها { .
ــــــــــــــــــــ0
الشرح :
( و هي العلم الحسي ) : أي هذا العلم نسميه " العلم " ، و العلم الحسي هو أول مرحلة ، و تأنيث الضمير هنا باعتبار الحالة حيث قال ( مشغولة بحالة جديدة نسميها العلم و هي ـ أي الحالة الجديدة ـ و كان يمكنه أن يقو : و العلم أو يقول : و هي .
( الذي ليس هو إلاّ حسُّ النفس بالأشياء التي تنالها الحواسُّ الخمس الباصرة ، السامعة ... ) : الحواسّ الظاهرة ... و من هنا الذي فقد " الباصرة " يستطيع أن يُميّز بين الألوان أو لا يستطيع ؟ بمعنى أنّه عندما تقول له " أحمر " أو " أصفر " هل يفهم ما تقول له ؟ قطعاً لا ، نعم لا بدّ أنّه أنت تضع يده على أشياء خشنة ـ مثلاً ـ فتقول له هذا معنى " أحمر " و على أقلّ خشونة تقوله له هذا معنى " أصفر " ، و ذلك حتّىأنت عندما تقول له " أحمر " فإنّه يتبادر إلى ذهنه أحد المعاني و إن كان هذا المعنى لا ينطبق مع الواقع الخارجي و لكن حتّى يستطيع أن يُميّز بين الألوان بواسطة الحاسّة اللامسة لا بواسطة الباصرة .
( و هذا أول درجات العلم ) : و هو العلم الإحساسيّ .
( و هو رأسُ المال لجميع العلوم التي يحصلُ عليها الإنسان و يُشاركه فيه سائر الحيوانات التي لها جميعُ هذه الحواسّ أو بعضها ) : و لهذا فإنّ الخطأ فيها ـ أي في درجات العلم ـ يكون مؤدياً إلى الخطأ في العلوم الأُخرى إذا لم يجد عندنا ضابطاً و ميزاناً ، لأنّ هذه الحواسّ أمور كثيرة تُجلبها لك ، أضف إلى ذلك أنّ هذه الحواسّ لا تُصيب دائماً بل تخطأ أحياناً أُخرى بل و كثيراً ما تُخطأ ، فمثلاً ـ أنت ـ إذا كانت إحدى يديك باردة جداً و الأُخرى باردة جداً ، فلو وضعت اليد ذات البرودة الشديدة في ماء فاتر الحرارة فإنّك تحسّ أنّ هذه اليد الباردة تقول أنّ الماء حارّ ، و تلك اليد الحارّة تقول أنّ الماء بارد فأيّهما الصادقة ؟
لو كانت عندك يد باردة جداً كأن كانت في ثلاجة ( برّاد ) و تلك اليد الأُخرى كانت على نار حارة ، فإنّك لو وضعتها في ماء درجة حرارتُه فاترة واحدة ، فهذين الإحساسين يُعطيان لك غنطباعاً واحداً أو انطباعين ؟ من الواضح يُعطيان لك انطباعين ، و أيضاً أنتم تنظرون إلى هذه المراوح عندما تدور تُشكل في دورانها دائرة مع أنّه ليس هناك في الأساس دائرة ، و تجدون هذا في علم الفيزياء ـ و أنتم لا شك مطلعون على ذلك ـ و هو أنّ هذه الخشبة عندما تضعونها في الماء فإنّه تحصل في الماء زاوية انكسار ، و لكن هذه الزواية واقعيّة أو غير واقعيّة ؟ غير واقعيّة .
من هذا نستنتجُ أنّ الإحساس يُخطأ ، فإذن ، ما هو المعيار لتصحيح الخطأ في الحواسّ ؟
من هنا نحتاج إلى معيارٍ آخر ، و هذا هو الذي نقول أنّ المنطق يبحث عن الموادّ ، فهذه بعد ليست هيئة بل هذه مرتبطة بالمواد .
النصّ :
} 2- ثم تترقى مداركُ الطفل فيتصرّف ذهنه في صور المحسوسات المحفوظة عنده ، فينسب بعضها إلى بعض ، هذا أطول من ذاك ، و هذا الضوء أنور من الآخر أو مثله ... و يؤلف بعضها من بعض تأليفاً قد لا يكون له وجود في الخارج ، كتأليفه لصور الأشياء التي يسمع بها و لا يراها ، فيتخيّل البلدة التي لم يرها ، مؤلفة من الصور الذهنيّة المعروفة عنده من مشاهداته للبلدان . و هذا هو ( العلم الخيالي ) يحصل عليه الإنسان بقوّة ( الخيال ) . و قد يُشاركه فيه بعض الحيوانات { .
ـــــــــــــــــــــ0
الشرح :
( ثمّ تترقى مداركُ الطفل ) : أي إدراكاته و قواه الإدراكيّة ، فـ " مدارك " تعني : قواه التي يُدركُ بها الأشياء .
( فيتصرّف ذهنه في صور المحسوسات المحفوظة عنده ) : العلم الخيالي هو : نفس تلك الصور و لكنه بعد الإنقطاع عن الواقع الخارجي ، و بحسب الإصطلاح عندما نقول ( علم خيالي ) فمرادنا هذا ، و لكن هناك اصطلاح آخر في ( علم النفس ) نُسمّيه ( قوّةُ المتخيّلَة ) و قد تُسمّى بـ ( المتصرِّفة ) و هذين الإصطلاحين المراد منهما غير المراد من ( الخيال ) ، و المصنّف ـ رحمةُ الله تعالى عليه ـ خلط بين الخيال و بين المتخيَّلَة ، بين الخيال و بين المتصرِّفة .
نحن بيّنا المراد من الخيال فما هو المراد من المتخيّلة ؟
معنى " المتخيّلة "
ـــــ0
المتخيّلة : هو أنّ الصور التي أنت حصّلتها تصنع منها صورة غير موجودة في الواقع الخارجي ، بمعنى أنت حصّلت " صورة إنسان " و حصّلت "صورة فرس " و حصّلت " صورة طائر " أنت حصّلت هذه الصور ، و الآن لو أغمضت عينيك و تصوّرت " زيد " فهذا علم " خيالي " و تصوّرت " الفرس " فهذا أيضاً علم " خيالي " و تصوّرت " الطير " و هذا أيضاً علم " خيالي " و الآن لو تصوّرت أنك تأتي إلى " الفرس " و ترفع رأسه و تضع مكانه " رأس إنسان " ثمّ تأتي بجناحي " الطير " و تُعطيه للفرس فيصبح " إنسانٌ فرسٌ طائر " و هذا هو الموجود في ذهن بعض الناس عندما تقول له أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه و آله و سلّم ـ ذهب ببُراقٍ إلى المعراج فإنّه يأتي في ذهنه أنّ البراق هو فرس له جناحين ، هذا هو تخيّل الإنسان للبُراق على سبيل المثال و هذا ليس بخيال بل هو بحسب الإصطلاح نُسميه " متخيّلة " و المتخيّلة غير " العلم الخيالي " .
فإذن ، في المرتبة الثانية ليس المتخيّلة بل الخيال ، لأنّ المصنّف الآن هو بصدد شرح المتخيّلة و في الأخير يقول : و هذا هو العلم الخيالي ، و المتخيّلة " المتصرّفة " هي مرحلة بعد الخيال ، و نحن الآن نتكلّم في المرتبة الثانية بعد الإحساس و التي هي " الخيال " .
فقوله : " فيتصرّ ذهنه في صور المحسوسات " ، هذه القوى هي القوى المتصرّفة و ليست العلم الخيالي أو قوّة الخيال التي هي المرتبة الثانية من المراتب التي تكونُ عليها مداركُ الإنسان .
و قوله " المحفوظة عنده " فهذه " المحفوظة " أي الصور المحفوظة هي الخيال و ليس أنّ التصرّف فيها هو الخيال ، بل أن المتصرّف فيها هو " المتصرّفة " أي المتخيّلة و ليس الخيال .
( فينسب بعضها إلى بعض هذا أطول من ذاك ، و هذا الضوء أنور من الآخر أو مثله ... و يؤلف بعضها من بعض ... ) : و يركّب ما بين بعضها كأن يتصوّر إنساناً له عشرة رؤوس فهو يستطيع أن يرى و يتصوّر في ذهنه إنساناً له عشرة رؤوس ، مع أنّه في الواقع الخارجي هذا الإنسان غير موجود . و هذه هي وظيفة " المتخيّلة " و " المتصرّفة " لا هي " الخيال " لأنّ الخيال هو : الإحتفاظ بالصور المعلومة بالعلم الإحساسي .
( كتأليفه لصور الأشياء التي يسمعُ بها و لا يراها ، فيتخيّل البلدة التي لم يرها ، مؤلفة من الصور الذهنية المعروفة عنده من مشاهداته للبلدان ) : كأن تقول له : ذهبنا إلى المكان الفلاني و عملنا كذا و كذا ، فهو لم يذهب إلى ذلك المكان فيبدأ هذا الطفل يتصوّرُ ذلك المكان ، يتخيّلُه بالنحو الذي يُناسبُ معلوماتَه ، فهذا ليس خيال بل هو متخيّلة . و هذه " مؤلفة من الصور الذنيّة ... " هي العلم الخيالي .
( و هذا هو " العلم الخيالي " ) : لا ، هذا ليس هو العلم الخيالي ، بل هو المتخيّلة " المتصرّفة " كما مرّ بيانه ، و العلم الخيالي ـ كما مرّ ـ هو الصور المحفوظة بعد الإنقطاع من الإحساس الخارجي .
( يحصل عليه الإنسان بقوة " الخيال " و قد يُشاركه فيه بعض الحيوانات ـ أيضاً ـ ) : و نحن هنا في ـ المتخيّلة ـ لا يوجد عندنا دليل على أنّ المتخيّلة موجودة أيضاً في الحيوانات أو لا ، و أمّا بالنسبة للخيال فهو موجود فيها .
و من هنا نقول أنّ قوله : ( و قد يُشاركه فيه بعض الحيوانات ) إن كان مراده يُشاركه في الخيال فنقول : نعم يوجد عندنا دليل على ذلك ، و أمّا إن كان مراده يُشاركه في المتخيّلة و المتصرّفة فنقول : لا ، نحن لا دليل عندنا على ذلك .
النصّ :
} 3ـ ثمّ يتوسّع في إدراكه إلى أكثر من المحسوسات ، فيدرك المعاني الجزئيّة التي لا مادّة لها و لا مقدار : مثل حبّ أبويه له ، و عداوة مبغضيه ، و خوف الخائف ، و حزن الثاكل ، و فرح المستبشر ... و هذا هو ( العلم الوهمي ) يحصل عليه الإنسان كغيره من الحيوانات بقوّة ( الوهم ) . و هي ـ هذه القوّة ـ موضع افتراق الإنسان عن الحيوان ، فيترك الحيوان وحده يدبّر إدراكاته بالوهم فقط ، و يصرّفها بما يستطيعه من هذه القوّة و الحول المحدود { .
ــــــــــــــــــــ0
الشرح :
( ثمّ يتوسّع في إدراكه إلى أكثر من المحسوسات ، فيدرك المعاني الجزئيّة التي لا مادّة لها و لا مقدار : ) : هذا الكتاب له مادّة أو لا ؟ نعم له مادّة ، لأنّه يأخذُ حيّزاً ، ثمّ هذا الكتاب له مقدار أو لا ؟ نعم له مقدار ، نقول طوله كذا في كذا ، إذن ، الأُمور الوهميّة أو العلم الوهميّ هو إدراكُ تلك الأُمور التي لا مادّة لها و لا مقدار من قبيل " حبُّ زيدٍ " فإنّ " حبّ زيدٍ " ليس له مادّة لأنّه أمرٌ معنويّ ، و أيضاً ـ حبّ زيد ـ ليس له مقدار حيث ليس له طول و عرض و عمق ، و أمّا الصورة التي في ذهني عن الكتاب لها مقدار أو لا ؟ إذن تبيّن هناك فرقٌ بين الخيال و بين الوهم ، و هو أنّ الخيال صحيح لا توجد فيه مادّة ـ يعني هذا الشيء غير موجود في ذهني ـ و لكن له مقدار أولا ؟ نعم فيه مقدار ، لأنّه أنت هذه الصورة التي في ذهنك عن الكتاب ، أنت تعلمُ الكتاب بمقداره و حدوده أو لا بمقداره ؟ نعم تعلم الكتاب بمقداره و حدوده ، فإذن ، الفرقُ بين الخيال و بين الوهم أنّ الخيال لا مادّة فيه و لكن فيه مقدار ، و لكنّ الوهم لا مادّة فيه و لا مقدار ، و " حبّ زيدٍ " أمور كليّة أو جزئيّة ؟ جزئيّة ، و هذا هو الفرق بين الوهمي و بين الكليّ لأنّ الكليّ أيضاً لا مادّة له و لا مقدار ، و لكن ذاك ينطبق على الجزئيّ و هذا الجزئيّ لا ينطبق على الكليّ .
( مثل حبّ أبويه له ، و عداوة مبغضيه ، و خوف الخائف ، و حزن الثاكل و فرح المستبشر ... ) : المراد من قوله عندما يقول " و خوف الخائف " ليس أنّه أن يخاف و أن يكون الخوف حاضراً عنده بالعلم الحضوريّ و إلاّ يكون خارجاً عن محلّ الكلام لأنّه نحن نتكلّم في العلم الحصوليّ ؛ فمراده من " خوف الخائف " يعني " أنا خائفٌ " فهذه " أنا خائفٌ " بنحو العلم الحصوليّ ، بمعنى ليس أنّه الآن يخاف ، فهو عندما يقول : " أنا خائفٌ " ما هو معناه في ذهنه ، هل له معنى في ذهنه أو لا ؟ فالآن هو ليس خائف ، أي خوف بالعلم الحضوري غير موجود ، أو عندما يقول : " زيدٌ خائفٌ " ينسبُ الخوف إلى زيدٍ ، فهذا العلم بالخوف حصوليّ لا حضوري ، و لكنّ جزئي أو كليّ ؟ إذن عندما يقول : كخوف الخائف ليس مراده بالعلم الحضوريّ و إنّما مراده بالعلم الحصوليّ .
( و هذا هو العلم الوهمي يحصل عليه الإنسان كغيره ـ كغير الإنسان ـ من الحيوانات بقوّة الوهم ) : الآن هل هذه قوّة جديدة في قبال العقل و في قبال الخيال أو ليست قوّة جديدة ؟ خلافٌ في ذلك بين المناطقة و الحكماء .
( و هي ـ أي هذه القوّة ـ موضعُ افتراق الإنسان عن الحيوان ) : هنا نسأل هل معنى ذلك أنّ هذه القوّة ليست موجودة في الحيوان ؟ نقول : لا ، هي موجودة و لكن من بعد هذه القوّة يفترق طريق الإنسان عن طريق الحيوان ، فالحيوان يقف هنا و لكنّ الإنسان يترقّى في مدارج الكمال و الإدراك .
( فيترك الحيوان وحده يدبّر إدراكاتِهِ بالوهم فقط ) : إذن ، الوهم موجود في الحيوان .
( و يُصرّفها بما يستطيعه من هذه القوّة و الحول المحدود ) : هذه القوّة تُعطيه القدرة على الحركة و لكن قدرة على الحركة محدودة لا أنّها قدرة لا متناهية ، و محدوديّتها تنبعث من كونها جزئيّة ، بخلاف الإنسان فقدرته على التأثير و الحركة لا متناهية ، فيستطيع ـ الإنسان ـ أن يمشي في مدارج الكمال إلى ما لا نهاية له .
النصّ :
} 4ـ ثمّ يذهب ـ هو الإنسان ـ في طريقه وحده متميّزاً عن الحيوان بقوّة العقل و الفكر التي لا حدّ لها و لا نهاية ، فيدير بها دفّة مدركاته الحسيّة و الخياليّة و الوهميّة ، و يميّز الصحيح منها عن الفاسد ، و ينتزع المعاني الكليّة من الجزئيّات التي أدركها فيتعقّلها ، و يقيس بعضها على بعض ، و ينتقل من معلوم إلى آخر ، و يستنتج و يحكم ، و يتصرّف ما شاءت له قدرته العقليّة و الفكريّة . و هذا ( العلم ) الذي يحصل لإنسان بهذه القوّة هو العلم الأكمل الذي كان به الإنسان إنساناً ، و لأجل نموّه و تكامله وُضِعَت العلوم و أُلّفت الفنون ، و به تفاوتت الطبقات و اختلفت الناس . و علم المنطق وُضِعَ من بين العلوم ، لأجل تنظيم تصرّفات هذه القوّة خوفاً من تأثير الوهم و الخيال عليها ، و من ذهابها في غير الصّراط المستقيم لها { .
ــــــــــــــــ0
الشرح :
ثم يذهب ـ هو الإنسان في طريقه وحده متميزاً عن الحيوان بقوّة العقل ) : إذن ، علم الإنسان ليس أنّه عاقلٌ بالفعل بل هو يستطيع أن يكون عاقلاً بالفعل .
( و الفكر التي لا حدّ لها و لا نهاية فيدير بها ) : أي يدير بهذه القوة .
( دفة مدركاته الحسيّة و الخياليّة و الوهميّة ، و يُميّز الصحيحَ منها عن الفاسد ) : و الكمال من النقص ، فيطلبُ الكمال و يهرب من النقص ، و هذا هو الذي لا يوجد في الحيوان ، الحيوان يمشي على طريقٍ واحد ، سواء كان هذا الطريق كمال ، نقص ، صحيح ، فاسد ، لأنّه ـ أي الحيوان ـ هذه غريزته التي لا بدّ أن يفعلها ، و أمّا الإنسان فلا ، فإنك تجده يشخّص الكمال من النقص فيطلب الكمال و يهرب من النقص .
( و ينتزعُ المعاني الكليّة من الجزئيات) : انشاء الله في بحث الكليّات سيأتي بأنّ هذه الكليّات من أين يحصل عليها الإنسان ، ففي الخارج نحن عندنا كليّ أو جزئيّ ؟ جزئيّ ، إذن ، هذه الكليّات من أين حصل عليها الإنسان ؟ الآن ـ عند ذلك ـ نبيّن أنّ العقل عنده قدرة أن يُجرّد هذه الكليّات عن تلك الأُمور المختلطة و ينتزع منها مفهوماً كليّاً عاماً .
( التي أدركها فيتعقلها ) : أي يتعقل تلك المعاني الكليّة .
( و يقيس بعضها على بعض و ينتقل من معلوم إلى آخر ، و يستنتج و يحكم ) : و هكذا تزدادُ معلوماتُه لا إلى نهاية .
( و يتصرف ما شاءت له قدرتُه العقليّة و الفكرية ، و هذا العلم ) : الذي هو العلم التعقلي الذي هو إدراكُ الكليّات .
( الذي يحصلُ للإنسان بهذه القوة ) : أي قوة العقل و الفكر .
( هو العلمُ الأكمل الذي كان به الإنسانُ إنساناً ) : يعني الذي كان به الإنسان بالقوّة إنساناً بالفعل ، بهذا العلم يكونُ إنساناً بالفعل ، و ما لم يكن كذلك فيبقى إنساناً بالقوّة و إن كانت الصورةُ صورةُ إنسان .
( و لأجل نموّه و تكامله وُضِعَت العلوم و أُلّفت الفنون ) : أي أن العلوم وُضِعَت لأجل نموّ الإنسان و لأجل تكامله و لأجل نموّ هذا العلم و تكامل هذا العلم وُضِعَت العلوم و الفنون .
( و به تفاوتت الطبقات و اختلفت الناس ) : أي في هذه المرحلة الرابعة اختلفت طبقات الناس ، الناس معادن كمعادن الذهب و الفضة ، في أي مرحلة يكونون ـ معادن كمعادن الذهب و الفضة ـ ؟ في هذه المرحلة يكونون كذلك ، و إلاّ قبل هذه المرحلة فهم ليسوا بأُناس حقيقةً و إنّما هم أُناس في القوّة .
( و علمُ المنطق وُضِعَ من بين العلوم ، لأجل تنظيم تصرّفات هذه القوّة خوفاً من تأثير الوهم و الخيال عليها ، و من ذهابها في غير الصراط المستقيم لها ) : هذه الجملة الأخيرة فيها مطلب من المطالب ، إنشاء الله إلى غدٍ ، و الحمد لله ربّ العالمين .
و به نستعين
قال الإمام الصّادق ( عليه أفضلُ الصّلاة و السّلام ) في قوله تعالى : " و لله الحُجّةُ البالغة " : إنّ الله تعالى يقولُ للعبد يوم القيامة : عبدي أكُنت عالما ؟ فإن قال نعم ، قال له : افلا عملت بما علمت " فإنّ العلمُ يكونُ حُجّةً على العبد يوم القيامة " و إن قال : كنتُ جاهلاً ، قال له : أفلا تعلّمت حتّى تعمل " .
إذن يُخصَمُ هذا العبد يوم القيامة أو لا يُخصم ؟ نعم يُخصَم ، و إذا كان الأمر كذلك فلا العاملُ بلا علم له قيمة يوم القيامة و لا العالمُ بلا عمل له القيمة يوم القيامة ؛ و إنّما العالمُ مع العمل له القيمة يوم القيامة الذي لا يُخصَمُ من قبل الله سُبحانه و تعالى . " فيخصمه " ، و ذلك الحُجّةُ البالغة في قوله تعالى : " و لله الحُجّةُ البالغة " .
قال الشيخ المظفّر ( رحمة الله تعالى عليه ) : ( العلمُ في ... ) : قلنا أنّ الله تعالى خلق الإنسانَ مفطوراً على التفكير ، مستعدّاً لتحصيل المعارف بما أُعطي من قوّةٍ عاقلةٍ مفكرةٍ يمتازُ بها عن العجماوات .
بالأمس انتهينا من بيان هذه و هي : أنّ العلم الذي يقع الكلام عنه هنا ، أولاً هو العلمُ الإنفعالي في قبال العلم الفعلي ، و بيّنا ما هو المراد من الفعلي و ما هو المراد من الإنفعالي ، و ثانياً أنّ العلم الذي يُذكرُ هنا هو العلمُ الحصوليّ في قبال العلم الحضوريّ و بيّنا ـ بحمد الله تعالى ـ في الأمس ما هو الحصوليّ و ما هو الحضوريّ ، و ذكرنا بنحو الإجمال بأنّ العلم الحضوري هو حضور و وجود نفس الشيء عند العالم بخلافه في العلم الحصولي فإنّه يحضُر صورة الشيء عند العالم لا نفس وجوده الخارجيّ ، هذا أولاً ، و ثانياً : أنّه في العلم الحصوليّ ـ دائماً ـ الصورةُ شيءٌ و الواقعُ الخارجيّ شيءٌ آخر ، و لكنّه بخلافه في العلم الحضوريّ فإنّه لا يوجدُ عندنا صورةٌ و واقعٌ خارجيّ بل لا يوجدُ عندنا إلاّ الواقع الخارجيّ ، و أضفنا إلى ما ذُكِرَ في الكتاب بعض النكات التي انتهينا إليها من أنّ العلمَ الذي يقعُ الحديث عنه في الكلام ، في الفلسفة ، في المنطق ، و في كلّ العلوم إنّما هو العلم الحصوليّ دون العلم الحضوريّ ؛ ـ طبعاً ـ هناك فروقٌ أُخرى نُرجعُها إلى دراساتٍ أُخرى .
و لكن ـ أيضاً ـ لا بأس أن يعلموا الأُخوة أنّ الله تعالى علمُهُ بما عداه فهو علمٌ حضوريّ و ليس علماً حصوليّاً ، يعني ( الله ) تعالى لا يعلمُ الأشياء بصورٍ عنها كما نحن نعلمُ الأشياء بصورٍ عنها ، الله تعالى يعلمُ الأشياء بحضُورها عنده كما نحن نعلمُ الألمَ عندما نتألّم ، ففي حالة الألم نفسُ الألم حاضرٌ عندنا و ليس صورةٌ من الألم حاضرة عندنا ، كذلك الله تعالى عندما يعلمُ عالم الإمكان ، كلُّ ما سواه يعلمُهُ بالعلم الحضوريّ لا أنّه يعلمُهُ بالعلم الحصوليّ ، نحن ذكرنا لكم بالأمس أنّ العلم الحضوريّ لا يوجدُ فيه خطأ ، فالله ـ إذن ـ للمجال له للخطأ فيه ، أي ليس المعنى أنّ الله يُمكن أن يخطأ و لكنّه لا يخطأ ، لا ، ليس هذا المراد ، أساساً هي سالبة بانتفاء الموضوع ، أي لا مجالَ للخطأ فيه ، و نحن قلنا بالأمس أنّ العلم الحضوريّ ليس فيه مجال للغفلة ، إذن الله تعالى يعلمُ الأشياء ، يغفلُ عنها في آنٍ أو لا يغفلُ عنها ؟ لا يغفلُ عنها ، بخلاف أنا و أنت فقد نُخطِأ و قد نغفل ، و كلّما أخطأنا احتجنا إلى علم المنطق حتّى يُركّبَ لنا المعلومات للوصول إلى كشف المجهولات بنحوٍ لا نخطأ من حيث الهيئة و من حيث المادّة . هذا تقدّم بيانُهُ بالأمس .
الآن ـ هنا ـ عندما يقول الماتن ، المصنّف ( رحمة الله تعالى عليه ) : ( العلم ) ، إذن اتّضح أنّ مراده العلم الحصوليّ ، فلا يُشكِلُ ـ بعدُ ـ أحدٌ على المصنّف أنّ التعريف الذي ذكرته في الآخر هذا التعريفُ غيرُ تامٍّ لأنّه لا يشمل العلم الحضوريّ كما فعل البعض ، فبعضٌ أشكلَ على الشيخ المظفّر فقال : هذا التعريف الذي ذكرته مختصٌّ بالعلم الحصوليّ و لا يشمُل كلّ أقسام العلم ؟ ! فالجواب على الاشكال له يكون : أنّ الشيخ المظفّر أيضاً هو بصدد تعريف العلم الحصوليّ و ليس بصدد بيان مطلق العلم الأعمّ من الحصوليّ و الحضوريّ حتّى تقولون أنّ الفعلَ ليس شاملاً لهما .
فما هو العلم عندما نقول : هذا علم ، و كيف يحصلُ العلم عند الإنسان ، يعني ما هي الوسائل التي من خلالها يُحصِّلُ الإنسانُ علماً ؟
طبعاً ، لم يُخلَق أيّ واحدٍ منّا و هو مالكٌ لما يعلم ، الآن مجموعة من المعلومات موجودة في أذهانكم ، أنتم عندما خُلقتم ، خرجتم من بطون أُمّهاتكم كنتم تعلمون شيئاً من هذه المعلومات أو لا تعلمون ؟ من الواضح أنّه بالوجدان و لا نحتاج إلى دليل أنّنا لم نكن نعلم شيئاً منها و من هنا احتجنا إلى التعلّم و التعليم و الدراسة و المطالعة و و و ... إلى غير ذلك حتّى نحصّل على المعلومات ؛ و من هنا يأتي هذا السؤال : ما هي الطرق لتيسير الحصول على المعلومات عند الإنسان ، من أيّ طريقٍ يُحصِّلُ الإنسانُ معلوماته و علومه ؟
هنا توجد نظريّات متعدّدة ، و لكنّه المصنّف ـ رحمة الله عليه و هو الشيخ المظفّر ـ يبني على النظريّة المشهورة عند حُكماء و فلاسفة المسلمين و هي النظريّة الأُورسطيّة .
النظريّة الأُورسطيّة :
ــــــ0
هذه النظريّة تقول : أنّ الإنسان خُلِقَ و هو لا يملكُ أيَّ علمٍ و أولّ ما يُحصِّلُ الإنسان العلوم يُحصِّلُها عن طريق الحواسّ ( الباصرة / السامعة / الشامّة / الذائقة / اللامسة ) هذه الحواسّ الظاهرة ، و توجد أيضاً عندنا حواسٌّ باطنة ، و لكنّ أول ما يرتبط الإنسان المولود ـ الطفل ـ إنّما يرتبطُ بالعالم الخارجيّ من حلال حواسّه ، و هذه الحواسّ تنقلُ إليه مجموعة من الانطباعات ، يعني عندما يضع يده على شيءٍ حارّ يحسُّ بنحوٍ من الاحساس ، و عندما يضع يده على شيءٍ بارد يحسُّ باحساسٍ آخر ، و الآن هو لا يستطيع أن يُعبّر أنّ هذا حارّ أو هذا بارد لأنّه إلى الآن لا يعرفُ الألفاظ و لا يعرفُ الكلام و لكن احساساته تختلف أو لا تختلف ؟ نعم تختلف ، و كذلك عندما تضع يده على شيءٍ خشن أو ناعم أو تضع في فمه طعام حلو أو طعام مرّ لكلّ واحدٍ من هذه عنده احساس يختلف عن الآخر ، إذن ، أول ما يرتبط بالعالم الخارجيّ يرتبط من خلال حواسّه و هذه الحواسّ تنقل له صور الأشياء و انطباعاته من الأشياء ، و هذه الانطباعات بعد ذلك سيضعُ لها الفصل فيقول : هذا حلوٌ ، هذا حارٌّ ، هذا باردٌ ، هذا نورٌ ، هذه ظلمةٌ ... و هذا ليس معناه أنّه لم يكن يعرفُ النور و الظلمة ، و إنّما الطفل يعرف النور و الظلمة و لكن قد تُعطي لهذه المسميّات أسماء أُخرى و ليس تريد أن تبيّن المسميّات ، نعم في مرحلة لاحقة تُضيفُ إليه أسماء و مسميّات و لكنّه ىفي المرحلة الأُولى ارتباطه بالواقع الخارجيّ عن طريق الحواسّ ثمّ توضع له الألفاظ و هذه هي المرحلةُ الأُولى التي نُسمّيها " الحسّ " أو " العلم الإحساسي " و لكن هذه مختصّةٌ بالإنسان أو توجدُ في كلِّ موجودٍ حيٍّ له علم و له شعور ؟ من الواضح أنّها ليست من مختصّات الإنسان ، بل توجد في البقر و توجد في الغنم و توجدُ في باقي الحيوانات ، أمّا توجدُ في النباتات أو لا توجد فالنباتات خارجة عن محلّ كلامنا ، المهمّ أنّها موجودٌ في باقي الحيوانات أيضاً .
مرحلة أُخرى ينتقلُ إليها الموجود الحيّ : هذا الطفل ـ نحن نتكلّم في الطفل ـ عندما يحسّ فبالإضافة إلى الصور أخذها يستطيع أن يتخيّل تلك الصور و إن لم تكن موجودة أمامه ، يعني ـ مثلاً ـ أنت عندما تقول له : أنا أشتري لك اللعبة الكذائيّة فهو يفرحُ لها ، و لكن فرحه هذا بماذا ، هذا الطفل أو الموجود الحيّ إذا لم يكن قد تصوّر ذلك الشيء فهل يستطيع أن يفرح بذلك الشيء الذي تقوله أو لا يستطيع ؟ من الواضح أنّه إذا لم يتصوّره لا يستطيع أن يفرح به ، مع أنّ تلك اللعبة غير موجودة الآن بين يديه ، فمن هنا يتّضح أنّ هذا الطفل يملكُ صورة في ذهنه و إن لم يكن الواقع الخارجيّ موجوداً عنده ، إذن مرحلة من المراحل أنّ هذا الطفل ما زال الشيء أمامه طبعاً يتصوّر الصورة و بعكس ذلك لا يستطيع أن يتصوّرها ، و لذا أنتم تجدون أنّ الطفل في مراحل مبكّرة من عمره إذا كانت أُمّه أمامه فلا يبكي و لكن بمجرّد أن تغيب من أمامه و إن كانت في غرفة أُخرى و قريبة عنه فإنّه يبكي ، و هذا معناه : أنّ الوجود يساوي عنده أن يكون الشيء أمامه و إذا لم يكن أمامه فيساوي عنده العدم ، لأنّه لا يستطيع أن يتصوّر أنّه موجود و لكن ليس أمامه ، فإذن ، مرحلة من مراحل الوجود في الطفل هو أنّه ـ فقط ـ يستطيع أن يرى الأشياء و تنعكس صور الأشياء في ذهنه ما دامت تلك الأشياء موجودة أمامه ، و هذا كما قلنا نسمّيه بـ " العلم الإحساسيّ " و لكن مرحلة مترقّية من هذه و هو أنّ هذا العلم الإحساسيّ يستطيع أن يحتفظ به الطفل ، يعني لو أغمض عينَهُ يستطيع أن يتصوّر نفس تلك الصورة و إن لم يكن الواقع الخارجيّ مُحسّاً له بأحد الحواسّ الخمس ، و هذ العلم نُسمّيه بـ " العلم الخياليّ " أو " الخيالي " . هذا الذي نقوله نُسميه " متخيّلة ، متصرِّفة " أنتم تشاهدون عندما يتكلّم شخص مع شخص آخر فيقول له : هذا خيال ، فـ ( هذا خيال ) المقصود من التحدث بين الاثنين هو ليس ( الخيال ) الذي نقصده و نبيّنه هنا .
المراد من ( الخيال العلميّ )
ـــــــــــ
الخيال : هو تلك الصورة الموجودة في الذهن و إن لم يكن واقعها الخارجي موجوداً أمام ذلك الإنسان .
أنت ـ جنابك ، الآن تذهب إلى حديقة جميلة و كذا كذا أوصافها ثمّ بعد ذلك تذهب إلى البيت فهل تستطيع أن تتصور نفس صورة تلك الحديقة في ذهنك أو لا تستطيع ؟ نعم تستطيع ، فإذن ، هذا التصوّر لهذه الحديقة و هي غير موجودة الآن بالفعل في البيت عندما تتصورها ، هذه نسميها بـ " العلم الخيالي " يعني صورة الشيء من غير وجود واقعها الخارجي أمامك الآن لأنها معدومة الوجود الآن و لكن صورة الحديقة تستطيع أن تتصورها في ذهنك و ليس نفس الشيء ـ الحديقة ـ .
مثال آخر :
هذا الكتاب أنظر إليه الآن لأنّه موجود أمامي فهذا علم " احساسي " و لكن أنا الآن أُغمِض عينيّ فصورة الكتاب موجودة في ذهني و أستطيع أن أتصورّ صورة الكتاب ، فهذا نُسميه " علم خيالي " .
إذن ، الصورة إذا كانت مرتبطة بالخارج نسميه " علم حسي " أو " حسي " و أمّا إذا كانت الصورة موجودة و منقطعة عن الخارج نسميه " علم خيالي " أو " خيالي " ، و لكن هذه الصورة موجودة في الحيوانات أو غير موجودة ؟ نعم موجودة في الحيوانات ، ما الدليل على وجودها ؟
الدليل على وجود قوّة الخيال في الحيوان أيضاً :
ــــــــــــــــ0
نقول : موجودة في الحيوانات بدليل : أنّ الحيوان في الصباح عندما يخرُج من مكانه لو تتركه في المساء فهل يرجع إلى نفس المكان أو لا يرجِع ؟ نعم يرجع إلى مكانه ، فإذن إذا كانت الصورة ـ صورة المكان الذي خرج منه في الصباح ـ غير موجودة في ذهنه فإنه لا يستطيع أن يرجع إلى نفس مكانه في الصباح ، فلذلك تجد أنّ الحيوانات تقطع آلاف الكيلو مترات للوصول إلى مكانٍ قد تركته قبل أشهر ، و هذا معناه : أنّ صورة المكان موجودة في ذهن الحيوان ، فلهذا يرجعُ إليها ، و هذه المرحلة أيضاً مشتركةٌ بين الإنسان و بين غير الإنسان .
إلى الآن الإنسان لم يتميّز من الحيوانات ، من العجماوات التي لا تستطيع النُطق ، و عندنا مرحلة ثالثة ، و هي " العلمُ الوهمي " ـ التفتوا جيداً ـ :
المراحل الأولى و الثانية متفقة بين الفلاسفة و المناطقة ليس هنا فيها بينهم اختلاف ، و لكن الاختلاف بينهم في المرحلة الثالثة فقط ، و المصنّف الشيخ المظفر ـ رحمة الله تعالى عليه ـ يذكر هذه المرحلة الثالثة هنا ، فما هو العلم الوهمي ؟
المراد من " العلم الوهمي " :
ـــــــــــ0
الوهم هنا ليس المراد منه هذا الذي نصطلح هذه التوهمات ، لا ، ليس مرادنا منه هذا ، و إنّما مرادنا من " الوهم " هنا : مفهوم من المفاهيم و لكنّه جزئي و ليس كليّ ، و لسائل يسأل : إذا كان مفهوم " الوهم " مفهوم جزئي فإذن يصدق أيضاً على الخيال ؟! الجواب : لا ، هذه يقولونها في المعاني فقط ، و مثال ذلك :
أنت جنابك مرّةً تُدركُ معنى " الحبّ " أو " البغض " يعني يوجد في ذهنك معنى للحب و معنى للبغض ... ف،ت في الوقت الذي تعرف ما هو الحب تعرف أيضاً ما هو البغض لأنّ معانيها موجودة في ذهنك ، و لكن " حُبُّ أو بغض الشخص الفلاني " هذا الحب و البغض إذا أُضيفا إلى شخصٍ معيّن فهذا نسميه " علم وهمي " و هو اصطلاح ، و هو أنّ مفهوماً من المفاهيم و هو مفهوم الخوف ، و لكن الخوف له مفهوم عندك أم لا ؟ نعم له مفهوم فأنت تعرفُ معنى الخوف ، و لكن الخوف من " السّبُع " هو خوف جزئي و هذا الجزئي نسميه " علم وهمي " و لكن هذا الخوف موجود في الحيوانات الأُخرى أو غير موجود ؟ نعم موجود ، لأنّه تجد أنّ بعض الحيوانات تخاف البعض الآخر أو لا تخاف ؟ نعم تخاف ، إذن يتّضح أنّ هذا العلم الوهمي ـ أيضاً ـ ليس الذي يُميّز الإنسان عن غير الإنسان بل هو موجود أيضاً في غير الإنسان كذلك .
هذه آخر مرحلة ـ كما يقول المصنّف ـ يشترك فيها الإنسان مع الحيوان ، فهنا ـ غي هذه المرحلة ـ يبقى الحيوان فيها و لا يتجاوزها ، و أمّا الإنسان فلا ، فإنّه لا يتوقف عند هذه المرحلة بل يترقّى إلى مرحلة جديدة ، هي " قوّةُ التعقّل " : احساس ، خيال ، وهم ، و عقل ؛ إذن تبيّن عندما نقول هنا " عقل " ليس مرادنا من " عقل " مطلق الإدراك ، و إنّما مرادنا إدراكُ الخاصّ ، و لكن هذا العقل ما هي ميزتُه ؟ ميزته أن يُدرك الأُمور الكليّة ، إذا اتّضح هذا نقول : العلم الإحساسي كليّ أو جزئيّ ؟ جزئيّ لأنّه مرتبط بهذه الصفة ، العلم الخيالي أو الخياليّ كليّ أو جزئيّ ؟ جزئي لأنّه صورةُ شيءٍ معيّن ، العلمُ الوهمي كليّ أو جزئيّ ؟ جزئيّ لأنّه مرتبط بالعداوة أو الصداقة و بالحبّ و البغض ، أي مرتبط بهذا الشيء ( العداوة أو الصداقة أو الحب أو البغض ) ، أمّا المفاهيم الكليّة فهي ليست بجزئيّة ، من قبيل ـ مثلاً ـ نفسِ مفهوم العداوة ، فأنت في ذهنك يوجد انطباعات من هذا المفهوم " مفهوم العداوة " أو لا ؟ يعني أنا عندما أقولُ لك " عداوة " هل يتبادر إلى ذهنك معنىً من المعاني أو لا يتبادر ، عندك انطباع من هذا المفهوم أو ليس عندك ؟ من الواضح أنّه يوجدُ عندك انطباعٌ ، إذن ، هذا المفهوم جزئيّ أو كليّ ؟ من الواضح أنّه كليّ ، و ليس أنّه مرتبط بهذا الموجود و بذاك الموجود .
و من هنا قالوا : أنّ الإنسان يتميّزُ عن غيره من الحيوانات بـ " إدراك الكليّات " لأنّ باقي المراحل ـ كما قلنا ـ مشتركةٌ بين الإنسان و غير الإنسان ، فالذي يُميّز الإنسان عن غيره هو " إدراكُ الكليّات " و هذه الكليّات هي التي يقعُ فيها الخطأ و الصحة و الصواب ، و يقعُ فيها التفسيرُ و الاستدلالُ و غيرُ ذلك من الأمور و إلاّ فلو لم يكن هذا ـ يعني لو لم يكن للإنسان هذه المرحلةُ الرابعة ـ فإنّه أساساً لما احتجنا إلى علم المنطق .
إذن علم المنطق نحتاج إليه في هذه المرحلة و هي مرحلةُ الاستدلال ، مرحلةُ التفكير ، مرحلة إدراك الكليّات .
إذن ، عندما نقول : إنّ الله جعل الإنسان عالماً ، يعني عالماً بالفعل أو فيه قدرة على العلم ـ قابليّة أن يعلم ـ ؟ من الواضح أنّ هذا من قبيل جنابك تقول " الإنسانُ ضاحكٌ " فهل دائماً هو ضاحكٌ ؟ طبعاً لا بل أنّه له قابليّةٌ يستطيعُ بها أن يُحقّق الضحك ، و هنا أيضاً عندما نقول " الإنسانُ مفكّرٌ ـ الإنسانُ عاقلٌ " ليس مرادنا أنّه عاقلٌ بالفعل ، مفكّرٌ بالفعل ، بل معناه أنّ الله ـ سُبحانه و تعالى ـ زوّده بقدرةٍ يستطيعُ بها أن يكون مفكّراً بالفعل ، وأن يكون عاقلاً بالفعل ، يعني مدركاً للكليّات بالفعل .
إذن ، السؤال واضح ، و الآن أريد الجواب ، و هو : أنّ الإنسان يوجدُ عاقلاً بالفعل أو يوجدُ عاقلاً بالقوّة ؟ يوجد عاقلاً بالقوّة ، و لكن يأتي هذا السؤال : بماذا يكون الإنسان عاقلاً بالفعل ؟ الجواب : يكون عاقلاً بالفعل إذا أدرك الكليّات ، و أمّا إذ لم يُدرك الكليّات فهو عاقل بالفعل لا بالقوّة ، و لكن ـ نحن قلنا ـ أنّ إدراك الكليّات هي التي تميّز الإنسان عن غيره ، و يأتي هنا هذا السؤال : أنّ إدراك الكليّات موجودة بالفعل أو أنّه بالعلم توجد ـ الكليّات ـ بالفعل ؟ الجواب : أنّها بالعلم موجودة بالفعل ، جنابك إذا لم تكتسب العلم فهل تُدرك الكليّات أو لا تُدركها ؟ طبعاً إذا لم تُدركها لا تكون إنساناً لأنّه نحن قلنا أنّ الإنسان إنّما يتميّز عن غيره من الحيوانات بـ " إدراك الكليّات " فإذا لم يُحصِّل الكليّات بالفعل يكون عندها إنساناً بالفعل أو إنساناً بالقوّة ؟ نقول : إذا لم يُحصِّل الكليّات بالفعل فهو حيوانٌ بالفعل و إنسانٌ بالقوّة ، فالإنسان فرقُهُ عن الحيوانات الباقية أنّ تلك الحيوانات لا تستطيع أن تكونَ إنساناً بالفعل ، فهذا ـ الإنسان الذي لم يُحصِّل الكليّات بالفعل ـ حيوانٌ بالفعل و لكن يستطيعُ أن يكونَ إنساناً بالفعل .
إذن ، لا يتبادر إلى ذهن الأُخوة أنّه بمجرّد أنّه يمشي على اثنين فهو إنسان ، لا ، هو ليس بإنسان و لكن يُمكنه أن يكونَ إنساناً .
هذه الروايات التي قالت أنّ الإنسان أفضل من الملائكة ، هل المقصود منها أنّ مطلق الإنسان أفضل من الملائكة ؟ نقول : لا ، و إنّما يُمكنه أن يكون أفضل من الملائكة و ليس أنّه الآن هو أفضل من الملائكة ، و إلاّ أيُّ إنسانٍ عاقل يقول : زيد من الناس ـ العاصي ، الفاسق ، الفاجر ـ هو أفضل من جبرئيل ـ عليه السلام ـ نعوذ بالله من ذلك ، فأنت لا ترى عاقلاً يقول بذلك ، نعم هذا الإنسان يستطيع أن يترقّى في مجالات الكمال و يكون أفضلُ من جبرئيل كما في النبيّ ـ صلّى الله عليه و آله و سلّم ـ و أئمّة أهل البيت ـ عليهم أفضل الصّلاة و السّلام ـ .
إذن ، الإنسان بالعلم يكونُ إنساناً بالفعل ، و إلاّ بمجرّد أنّه يولد و يمشي على اثنين فهذا لا يجعلُ منه إنساناً بالفعل بل بالعلم يكون إنساناً بالفعل ، فلهذا تجدون هذه التأكيدات الواردة عن أئمّة أهل البيت ـ عليهم أفضل الصّلاة و السّلام ـ في العلم ، في العلم ، يعني يريدونك أن تكون إنساناً بالفعل لأنّه قبل العلم أنت حيوانٌ بالفعل و إنسانٌ بالقوّة أي يُمكنُك أن تكونَ إنساناً ، فلهذا تفهمون هذه الرواية عن أمير المؤمنين ـ عليه أفضل الصّلاة و السّلام ـ عندما يقول : " الصورةُ صورةُ إنسان و القلبُ قلبُ حيوان " و الشاهد على أنّ إنسانيّة الإنسان ليس بمشيه على اثنين أنّ الإنسان لو قُطِعَت رجلاه و مشى على أربع فإنّه يبقى إنسان ، فإذن ، إنسانيّتُه ليس بالمشي على اثنين و إنّما إنسانيّتُه بالعلم ، بإدراك الكليّات ، بالعاقلة ، بالتفكير ، بالمرحلة الرابعة من العلم ، و إلاّ لو لم تتحقّق تلك المرحلة الرابعة و هي " القوّة المفكّرة " و " القوّة العاقلة " و لم تخرُج من القوّةِ إلى الفعل فلا يكونُ الإنسانُ إنساناً بالفعل .
قال : ( تمهيدٌ : إنّ الله خلق الإنسان مفطوراً على التفكير ) : فهنا ـ التفتوا جيّداً ـ يعني أنّه مفكّرٌ بالفعل أو أنّه يُمكنه أن يكونَ مفكّراً بالفعل ؟ الجواب : أنّ قوله " مفطوراً على التفكير " ليس معناه أنّ الإنسان مذ وُجِدَ فهو مفكّرٌ ، و إنّما معناه أنّ الله تعالى جعل فيه قوّة يستطيع أن يكون مفكّراً بالفعل و إلاّ فإنّ الإنسان في أول وجوده ـ الطفل ـ ليس مفكّراً بالفعل ، و الدليل على ذلك أنّك تستطيع أن تعلّمه الأشياء و يفهم منك الكلام ، بل يُمكنه أن يرقى مدارج الكمال ليكون مفكّراً بالفعل ، هذه الخصوصيّة الأُولى . فلهذا بعد قوله ( مفطوراً على التفكير ) قال :
( مستعداً ) : و معنى ذلك أنّه ليس مفكّر بالفعل بل فيه استعدادٌ لتحصيل المعارف ، و ليس أنّه وُجِد و معه كلُّ المعارف و كلّ المعلومات .
قال : ( بما أُعطي من قوّةٍ عاقلة مفكّرةٍ ) : أي بما زوّد بهذه القوّة التي يستطيع أن يستخدمها لاكتساب المعارف ، و هذه القوة العاقلة المفكّرة ::
( يمتازُ بها عن العجماوات ) : عن باقي الحيوانات كالبقر و الغنم و النمل و نحو ذلك .
( و لا بأس ببيان موطن هذا الإمتياز ) : نحن قلنا أنّ الحيوان ـ الإنسان ـ يمتاز عن باقي العجماوات ، و لكن في أيّ مرحلة يمتاز ، في الإحساس ؟ لا ، في الخيال ؟ لا ، في الوهم ؟ لا ، إذن أين يمتاز ؟ يمتاز في التعقّل الذي هو إدراك الكليّات .
( من أقسام العلم الذي نبحث عنه ، مقدّمة لتعريف العلم ، و لبيان علاقة المنطق به ـ أي بالعلم ـ ) : و قد اتّضحت علاقة المنطق بالعلم ، لأنّ المنطق يحاول أن يُصحّح ذلك الخطأ الذي في الكليّات ، في التفكير ، و من هنا نحن عرّفنا المنطق فيما سبق بأنّه : " العلمُ الذي يتبنّى تصحيح أفكارنا " هذه علاقة العلم بالمنطق .
النصّ :
} 1- إذا ولد الإنسان يولد و هو خالي النّفس من كلّ فكرة و علم فعلي ، سوى هذا الاستعداد الفطري ، فإذا نشأ و أصبح ينظر و يسمع و يذوق و يشم و يلمس ، نراه يحسّ بما حوله من الأشياء ، و يتأثر بها التأثر المناسب ، فتنفعل نفسه بها ، فنعرف أنّ نفسه التي كانت خالية أصبحت مشغولة بحالة جديدة نسميها ( العلم ) { .
ـــــــــــــــــ0
الشرح :
( إذا ولد الإنسان ولد خالي النفس من كلّ فكرة ) : أي خالٍ من كل علم حصولي لا أنّه خالي النفس من أيّ علمٍ حتّى و لو كان علماً حضوريّاً .
( و علمٍ فعليٍّ ) : يعني بالفعل لا يوجد عنده شيءٌ ، نعم بالقوّة يُمكن أن يوجد عنده شيءٌ .
( سوى هذا الاستعداد الفطري ) : أي ـ فقط ـ توجد عنده هذه القدرة ـ الاستعداد الفطري ـ على أن يكون مدركاً للكليّات .
( فإذا نشأ و أصبح ... بما حوله من الأشياء ) : حيث هنا يبدأ ارتباطه بالعالم الخارجي من خلال هذه الحواسّ ، ـ التفتوا جيداً ـ :
إذا فقد حسّاً فإنه يكون قد فقد طريقاً من طرق أو طرائق المعرفة ، فإذا فقد حسّين فقد طريقين ، و إذا فقد ثلاثة فقد ثلاثة طرق ، فإذا فقد أربعة ، أو فقد خمسة ، فهل يبقى له هناك طريق إلى المعرفة ؟ لا ، و هذا هو معنى القول المنسوب إلى أرسطو : " من فقد حسّاً فقد علماً " لأنّه هو من أيّ طريق يُحصّل المعلومات ؟ يُحصّلُها عن طريق الحسّ ، عن طريق هذه الحواسّ فإذا سُلِبَت فإنّه ـ عندها ـ لا مجال للعلم و لا لتحصيل المعارف و المعلومات .
( و يتأثّرُ بها التأثّر المناسب ) : فعندما يضع يده على الحرارة يشعر و يحسّ بنوع من التأثّر ، و عندما يضع يده على البرودة يحسّ بتأثّر آخر .
( فتنفعل نفسه بها ) : أي بهذه الأشياء التي نحسّ بها ، و نحن فيما سبق قلنا بأن فعلها فعل انفعالي .
( فنعرفُ أنّ نفسه التي كانت خالية ) : كالصفحة البيضاء إن صحّ التشبيه .
( أصبحت مشغولة بحالة جديدة نسميها " العلم " ) : أي بعد الإرتباط بالخارج بدأت تمتلأ ـ أي هذه النفس الخالية ـ كالسبورة ـ من باب المثال فقط و إن كان يُقرّبُ من ألف جانب ـ أي كانت صفحة بيضاء و الآن هذه العلوم بدأت تنتقشُ و تنطبعُ فيها ، و هذه الحالة نسميها ( العلم ) في قبال الحالة السابقة التي هي ( الجهل ) .
النصّ :
} و هي العلم الحسي الذي هو ليس إلاّ حسُّ النفس بالأشياء التي تنالها الحواسّ الخمس : ( الباصرة ، السامعة ، الشامة ، الذائقة ، اللامسة ) . و هذا أول درجات العلم ، و هو رأس المال لجميع العلوم التي يحصل عليها الإنسان ، و يُشاركه فيه سائر الحيوانات التي لها جميع هذه الحواسّ أو بعضها { .
ــــــــــــــــــــ0
الشرح :
( و هي العلم الحسي ) : أي هذا العلم نسميه " العلم " ، و العلم الحسي هو أول مرحلة ، و تأنيث الضمير هنا باعتبار الحالة حيث قال ( مشغولة بحالة جديدة نسميها العلم و هي ـ أي الحالة الجديدة ـ و كان يمكنه أن يقو : و العلم أو يقول : و هي .
( الذي ليس هو إلاّ حسُّ النفس بالأشياء التي تنالها الحواسُّ الخمس الباصرة ، السامعة ... ) : الحواسّ الظاهرة ... و من هنا الذي فقد " الباصرة " يستطيع أن يُميّز بين الألوان أو لا يستطيع ؟ بمعنى أنّه عندما تقول له " أحمر " أو " أصفر " هل يفهم ما تقول له ؟ قطعاً لا ، نعم لا بدّ أنّه أنت تضع يده على أشياء خشنة ـ مثلاً ـ فتقول له هذا معنى " أحمر " و على أقلّ خشونة تقوله له هذا معنى " أصفر " ، و ذلك حتّىأنت عندما تقول له " أحمر " فإنّه يتبادر إلى ذهنه أحد المعاني و إن كان هذا المعنى لا ينطبق مع الواقع الخارجي و لكن حتّى يستطيع أن يُميّز بين الألوان بواسطة الحاسّة اللامسة لا بواسطة الباصرة .
( و هذا أول درجات العلم ) : و هو العلم الإحساسيّ .
( و هو رأسُ المال لجميع العلوم التي يحصلُ عليها الإنسان و يُشاركه فيه سائر الحيوانات التي لها جميعُ هذه الحواسّ أو بعضها ) : و لهذا فإنّ الخطأ فيها ـ أي في درجات العلم ـ يكون مؤدياً إلى الخطأ في العلوم الأُخرى إذا لم يجد عندنا ضابطاً و ميزاناً ، لأنّ هذه الحواسّ أمور كثيرة تُجلبها لك ، أضف إلى ذلك أنّ هذه الحواسّ لا تُصيب دائماً بل تخطأ أحياناً أُخرى بل و كثيراً ما تُخطأ ، فمثلاً ـ أنت ـ إذا كانت إحدى يديك باردة جداً و الأُخرى باردة جداً ، فلو وضعت اليد ذات البرودة الشديدة في ماء فاتر الحرارة فإنّك تحسّ أنّ هذه اليد الباردة تقول أنّ الماء حارّ ، و تلك اليد الحارّة تقول أنّ الماء بارد فأيّهما الصادقة ؟
لو كانت عندك يد باردة جداً كأن كانت في ثلاجة ( برّاد ) و تلك اليد الأُخرى كانت على نار حارة ، فإنّك لو وضعتها في ماء درجة حرارتُه فاترة واحدة ، فهذين الإحساسين يُعطيان لك غنطباعاً واحداً أو انطباعين ؟ من الواضح يُعطيان لك انطباعين ، و أيضاً أنتم تنظرون إلى هذه المراوح عندما تدور تُشكل في دورانها دائرة مع أنّه ليس هناك في الأساس دائرة ، و تجدون هذا في علم الفيزياء ـ و أنتم لا شك مطلعون على ذلك ـ و هو أنّ هذه الخشبة عندما تضعونها في الماء فإنّه تحصل في الماء زاوية انكسار ، و لكن هذه الزواية واقعيّة أو غير واقعيّة ؟ غير واقعيّة .
من هذا نستنتجُ أنّ الإحساس يُخطأ ، فإذن ، ما هو المعيار لتصحيح الخطأ في الحواسّ ؟
من هنا نحتاج إلى معيارٍ آخر ، و هذا هو الذي نقول أنّ المنطق يبحث عن الموادّ ، فهذه بعد ليست هيئة بل هذه مرتبطة بالمواد .
النصّ :
} 2- ثم تترقى مداركُ الطفل فيتصرّف ذهنه في صور المحسوسات المحفوظة عنده ، فينسب بعضها إلى بعض ، هذا أطول من ذاك ، و هذا الضوء أنور من الآخر أو مثله ... و يؤلف بعضها من بعض تأليفاً قد لا يكون له وجود في الخارج ، كتأليفه لصور الأشياء التي يسمع بها و لا يراها ، فيتخيّل البلدة التي لم يرها ، مؤلفة من الصور الذهنيّة المعروفة عنده من مشاهداته للبلدان . و هذا هو ( العلم الخيالي ) يحصل عليه الإنسان بقوّة ( الخيال ) . و قد يُشاركه فيه بعض الحيوانات { .
ـــــــــــــــــــــ0
الشرح :
( ثمّ تترقى مداركُ الطفل ) : أي إدراكاته و قواه الإدراكيّة ، فـ " مدارك " تعني : قواه التي يُدركُ بها الأشياء .
( فيتصرّف ذهنه في صور المحسوسات المحفوظة عنده ) : العلم الخيالي هو : نفس تلك الصور و لكنه بعد الإنقطاع عن الواقع الخارجي ، و بحسب الإصطلاح عندما نقول ( علم خيالي ) فمرادنا هذا ، و لكن هناك اصطلاح آخر في ( علم النفس ) نُسمّيه ( قوّةُ المتخيّلَة ) و قد تُسمّى بـ ( المتصرِّفة ) و هذين الإصطلاحين المراد منهما غير المراد من ( الخيال ) ، و المصنّف ـ رحمةُ الله تعالى عليه ـ خلط بين الخيال و بين المتخيَّلَة ، بين الخيال و بين المتصرِّفة .
نحن بيّنا المراد من الخيال فما هو المراد من المتخيّلة ؟
معنى " المتخيّلة "
ـــــ0
المتخيّلة : هو أنّ الصور التي أنت حصّلتها تصنع منها صورة غير موجودة في الواقع الخارجي ، بمعنى أنت حصّلت " صورة إنسان " و حصّلت "صورة فرس " و حصّلت " صورة طائر " أنت حصّلت هذه الصور ، و الآن لو أغمضت عينيك و تصوّرت " زيد " فهذا علم " خيالي " و تصوّرت " الفرس " فهذا أيضاً علم " خيالي " و تصوّرت " الطير " و هذا أيضاً علم " خيالي " و الآن لو تصوّرت أنك تأتي إلى " الفرس " و ترفع رأسه و تضع مكانه " رأس إنسان " ثمّ تأتي بجناحي " الطير " و تُعطيه للفرس فيصبح " إنسانٌ فرسٌ طائر " و هذا هو الموجود في ذهن بعض الناس عندما تقول له أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه و آله و سلّم ـ ذهب ببُراقٍ إلى المعراج فإنّه يأتي في ذهنه أنّ البراق هو فرس له جناحين ، هذا هو تخيّل الإنسان للبُراق على سبيل المثال و هذا ليس بخيال بل هو بحسب الإصطلاح نُسميه " متخيّلة " و المتخيّلة غير " العلم الخيالي " .
فإذن ، في المرتبة الثانية ليس المتخيّلة بل الخيال ، لأنّ المصنّف الآن هو بصدد شرح المتخيّلة و في الأخير يقول : و هذا هو العلم الخيالي ، و المتخيّلة " المتصرّفة " هي مرحلة بعد الخيال ، و نحن الآن نتكلّم في المرتبة الثانية بعد الإحساس و التي هي " الخيال " .
فقوله : " فيتصرّ ذهنه في صور المحسوسات " ، هذه القوى هي القوى المتصرّفة و ليست العلم الخيالي أو قوّة الخيال التي هي المرتبة الثانية من المراتب التي تكونُ عليها مداركُ الإنسان .
و قوله " المحفوظة عنده " فهذه " المحفوظة " أي الصور المحفوظة هي الخيال و ليس أنّ التصرّف فيها هو الخيال ، بل أن المتصرّف فيها هو " المتصرّفة " أي المتخيّلة و ليس الخيال .
( فينسب بعضها إلى بعض هذا أطول من ذاك ، و هذا الضوء أنور من الآخر أو مثله ... و يؤلف بعضها من بعض ... ) : و يركّب ما بين بعضها كأن يتصوّر إنساناً له عشرة رؤوس فهو يستطيع أن يرى و يتصوّر في ذهنه إنساناً له عشرة رؤوس ، مع أنّه في الواقع الخارجي هذا الإنسان غير موجود . و هذه هي وظيفة " المتخيّلة " و " المتصرّفة " لا هي " الخيال " لأنّ الخيال هو : الإحتفاظ بالصور المعلومة بالعلم الإحساسي .
( كتأليفه لصور الأشياء التي يسمعُ بها و لا يراها ، فيتخيّل البلدة التي لم يرها ، مؤلفة من الصور الذهنية المعروفة عنده من مشاهداته للبلدان ) : كأن تقول له : ذهبنا إلى المكان الفلاني و عملنا كذا و كذا ، فهو لم يذهب إلى ذلك المكان فيبدأ هذا الطفل يتصوّرُ ذلك المكان ، يتخيّلُه بالنحو الذي يُناسبُ معلوماتَه ، فهذا ليس خيال بل هو متخيّلة . و هذه " مؤلفة من الصور الذنيّة ... " هي العلم الخيالي .
( و هذا هو " العلم الخيالي " ) : لا ، هذا ليس هو العلم الخيالي ، بل هو المتخيّلة " المتصرّفة " كما مرّ بيانه ، و العلم الخيالي ـ كما مرّ ـ هو الصور المحفوظة بعد الإنقطاع من الإحساس الخارجي .
( يحصل عليه الإنسان بقوة " الخيال " و قد يُشاركه فيه بعض الحيوانات ـ أيضاً ـ ) : و نحن هنا في ـ المتخيّلة ـ لا يوجد عندنا دليل على أنّ المتخيّلة موجودة أيضاً في الحيوانات أو لا ، و أمّا بالنسبة للخيال فهو موجود فيها .
و من هنا نقول أنّ قوله : ( و قد يُشاركه فيه بعض الحيوانات ) إن كان مراده يُشاركه في الخيال فنقول : نعم يوجد عندنا دليل على ذلك ، و أمّا إن كان مراده يُشاركه في المتخيّلة و المتصرّفة فنقول : لا ، نحن لا دليل عندنا على ذلك .
النصّ :
} 3ـ ثمّ يتوسّع في إدراكه إلى أكثر من المحسوسات ، فيدرك المعاني الجزئيّة التي لا مادّة لها و لا مقدار : مثل حبّ أبويه له ، و عداوة مبغضيه ، و خوف الخائف ، و حزن الثاكل ، و فرح المستبشر ... و هذا هو ( العلم الوهمي ) يحصل عليه الإنسان كغيره من الحيوانات بقوّة ( الوهم ) . و هي ـ هذه القوّة ـ موضع افتراق الإنسان عن الحيوان ، فيترك الحيوان وحده يدبّر إدراكاته بالوهم فقط ، و يصرّفها بما يستطيعه من هذه القوّة و الحول المحدود { .
ــــــــــــــــــــ0
الشرح :
( ثمّ يتوسّع في إدراكه إلى أكثر من المحسوسات ، فيدرك المعاني الجزئيّة التي لا مادّة لها و لا مقدار : ) : هذا الكتاب له مادّة أو لا ؟ نعم له مادّة ، لأنّه يأخذُ حيّزاً ، ثمّ هذا الكتاب له مقدار أو لا ؟ نعم له مقدار ، نقول طوله كذا في كذا ، إذن ، الأُمور الوهميّة أو العلم الوهميّ هو إدراكُ تلك الأُمور التي لا مادّة لها و لا مقدار من قبيل " حبُّ زيدٍ " فإنّ " حبّ زيدٍ " ليس له مادّة لأنّه أمرٌ معنويّ ، و أيضاً ـ حبّ زيد ـ ليس له مقدار حيث ليس له طول و عرض و عمق ، و أمّا الصورة التي في ذهني عن الكتاب لها مقدار أو لا ؟ إذن تبيّن هناك فرقٌ بين الخيال و بين الوهم ، و هو أنّ الخيال صحيح لا توجد فيه مادّة ـ يعني هذا الشيء غير موجود في ذهني ـ و لكن له مقدار أولا ؟ نعم فيه مقدار ، لأنّه أنت هذه الصورة التي في ذهنك عن الكتاب ، أنت تعلمُ الكتاب بمقداره و حدوده أو لا بمقداره ؟ نعم تعلم الكتاب بمقداره و حدوده ، فإذن ، الفرقُ بين الخيال و بين الوهم أنّ الخيال لا مادّة فيه و لكن فيه مقدار ، و لكنّ الوهم لا مادّة فيه و لا مقدار ، و " حبّ زيدٍ " أمور كليّة أو جزئيّة ؟ جزئيّة ، و هذا هو الفرق بين الوهمي و بين الكليّ لأنّ الكليّ أيضاً لا مادّة له و لا مقدار ، و لكن ذاك ينطبق على الجزئيّ و هذا الجزئيّ لا ينطبق على الكليّ .
( مثل حبّ أبويه له ، و عداوة مبغضيه ، و خوف الخائف ، و حزن الثاكل و فرح المستبشر ... ) : المراد من قوله عندما يقول " و خوف الخائف " ليس أنّه أن يخاف و أن يكون الخوف حاضراً عنده بالعلم الحضوريّ و إلاّ يكون خارجاً عن محلّ الكلام لأنّه نحن نتكلّم في العلم الحصوليّ ؛ فمراده من " خوف الخائف " يعني " أنا خائفٌ " فهذه " أنا خائفٌ " بنحو العلم الحصوليّ ، بمعنى ليس أنّه الآن يخاف ، فهو عندما يقول : " أنا خائفٌ " ما هو معناه في ذهنه ، هل له معنى في ذهنه أو لا ؟ فالآن هو ليس خائف ، أي خوف بالعلم الحضوري غير موجود ، أو عندما يقول : " زيدٌ خائفٌ " ينسبُ الخوف إلى زيدٍ ، فهذا العلم بالخوف حصوليّ لا حضوري ، و لكنّ جزئي أو كليّ ؟ إذن عندما يقول : كخوف الخائف ليس مراده بالعلم الحضوريّ و إنّما مراده بالعلم الحصوليّ .
( و هذا هو العلم الوهمي يحصل عليه الإنسان كغيره ـ كغير الإنسان ـ من الحيوانات بقوّة الوهم ) : الآن هل هذه قوّة جديدة في قبال العقل و في قبال الخيال أو ليست قوّة جديدة ؟ خلافٌ في ذلك بين المناطقة و الحكماء .
( و هي ـ أي هذه القوّة ـ موضعُ افتراق الإنسان عن الحيوان ) : هنا نسأل هل معنى ذلك أنّ هذه القوّة ليست موجودة في الحيوان ؟ نقول : لا ، هي موجودة و لكن من بعد هذه القوّة يفترق طريق الإنسان عن طريق الحيوان ، فالحيوان يقف هنا و لكنّ الإنسان يترقّى في مدارج الكمال و الإدراك .
( فيترك الحيوان وحده يدبّر إدراكاتِهِ بالوهم فقط ) : إذن ، الوهم موجود في الحيوان .
( و يُصرّفها بما يستطيعه من هذه القوّة و الحول المحدود ) : هذه القوّة تُعطيه القدرة على الحركة و لكن قدرة على الحركة محدودة لا أنّها قدرة لا متناهية ، و محدوديّتها تنبعث من كونها جزئيّة ، بخلاف الإنسان فقدرته على التأثير و الحركة لا متناهية ، فيستطيع ـ الإنسان ـ أن يمشي في مدارج الكمال إلى ما لا نهاية له .
النصّ :
} 4ـ ثمّ يذهب ـ هو الإنسان ـ في طريقه وحده متميّزاً عن الحيوان بقوّة العقل و الفكر التي لا حدّ لها و لا نهاية ، فيدير بها دفّة مدركاته الحسيّة و الخياليّة و الوهميّة ، و يميّز الصحيح منها عن الفاسد ، و ينتزع المعاني الكليّة من الجزئيّات التي أدركها فيتعقّلها ، و يقيس بعضها على بعض ، و ينتقل من معلوم إلى آخر ، و يستنتج و يحكم ، و يتصرّف ما شاءت له قدرته العقليّة و الفكريّة . و هذا ( العلم ) الذي يحصل لإنسان بهذه القوّة هو العلم الأكمل الذي كان به الإنسان إنساناً ، و لأجل نموّه و تكامله وُضِعَت العلوم و أُلّفت الفنون ، و به تفاوتت الطبقات و اختلفت الناس . و علم المنطق وُضِعَ من بين العلوم ، لأجل تنظيم تصرّفات هذه القوّة خوفاً من تأثير الوهم و الخيال عليها ، و من ذهابها في غير الصّراط المستقيم لها { .
ــــــــــــــــ0
الشرح :
ثم يذهب ـ هو الإنسان في طريقه وحده متميزاً عن الحيوان بقوّة العقل ) : إذن ، علم الإنسان ليس أنّه عاقلٌ بالفعل بل هو يستطيع أن يكون عاقلاً بالفعل .
( و الفكر التي لا حدّ لها و لا نهاية فيدير بها ) : أي يدير بهذه القوة .
( دفة مدركاته الحسيّة و الخياليّة و الوهميّة ، و يُميّز الصحيحَ منها عن الفاسد ) : و الكمال من النقص ، فيطلبُ الكمال و يهرب من النقص ، و هذا هو الذي لا يوجد في الحيوان ، الحيوان يمشي على طريقٍ واحد ، سواء كان هذا الطريق كمال ، نقص ، صحيح ، فاسد ، لأنّه ـ أي الحيوان ـ هذه غريزته التي لا بدّ أن يفعلها ، و أمّا الإنسان فلا ، فإنك تجده يشخّص الكمال من النقص فيطلب الكمال و يهرب من النقص .
( و ينتزعُ المعاني الكليّة من الجزئيات) : انشاء الله في بحث الكليّات سيأتي بأنّ هذه الكليّات من أين يحصل عليها الإنسان ، ففي الخارج نحن عندنا كليّ أو جزئيّ ؟ جزئيّ ، إذن ، هذه الكليّات من أين حصل عليها الإنسان ؟ الآن ـ عند ذلك ـ نبيّن أنّ العقل عنده قدرة أن يُجرّد هذه الكليّات عن تلك الأُمور المختلطة و ينتزع منها مفهوماً كليّاً عاماً .
( التي أدركها فيتعقلها ) : أي يتعقل تلك المعاني الكليّة .
( و يقيس بعضها على بعض و ينتقل من معلوم إلى آخر ، و يستنتج و يحكم ) : و هكذا تزدادُ معلوماتُه لا إلى نهاية .
( و يتصرف ما شاءت له قدرتُه العقليّة و الفكرية ، و هذا العلم ) : الذي هو العلم التعقلي الذي هو إدراكُ الكليّات .
( الذي يحصلُ للإنسان بهذه القوة ) : أي قوة العقل و الفكر .
( هو العلمُ الأكمل الذي كان به الإنسانُ إنساناً ) : يعني الذي كان به الإنسان بالقوّة إنساناً بالفعل ، بهذا العلم يكونُ إنساناً بالفعل ، و ما لم يكن كذلك فيبقى إنساناً بالقوّة و إن كانت الصورةُ صورةُ إنسان .
( و لأجل نموّه و تكامله وُضِعَت العلوم و أُلّفت الفنون ) : أي أن العلوم وُضِعَت لأجل نموّ الإنسان و لأجل تكامله و لأجل نموّ هذا العلم و تكامل هذا العلم وُضِعَت العلوم و الفنون .
( و به تفاوتت الطبقات و اختلفت الناس ) : أي في هذه المرحلة الرابعة اختلفت طبقات الناس ، الناس معادن كمعادن الذهب و الفضة ، في أي مرحلة يكونون ـ معادن كمعادن الذهب و الفضة ـ ؟ في هذه المرحلة يكونون كذلك ، و إلاّ قبل هذه المرحلة فهم ليسوا بأُناس حقيقةً و إنّما هم أُناس في القوّة .
( و علمُ المنطق وُضِعَ من بين العلوم ، لأجل تنظيم تصرّفات هذه القوّة خوفاً من تأثير الوهم و الخيال عليها ، و من ذهابها في غير الصراط المستقيم لها ) : هذه الجملة الأخيرة فيها مطلب من المطالب ، إنشاء الله إلى غدٍ ، و الحمد لله ربّ العالمين .
المدير العام- Admin
-
عدد المساهمات : 501
نقاط : 2147483647
عضو مميز : 1
تاريخ التسجيل : 09/02/2010
العمر : 44
مواضيع مماثلة
» دروس في علم المنطق ـ المحاضرة الأولى
» دروس في علم المنطق ـ المحاضرة الرابعة
» دروس في علم المنطق ـ المحاضرة السادسة
» دروس في علم المنطق ـ المحاضرة الرابعة
» دروس في علم المنطق ـ المحاضرة السادسة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الثلاثاء يوليو 08, 2014 6:16 pm من طرف السيد عبد الحسين الاعرجي
» زواج المتعة
الأربعاء فبراير 09, 2011 11:07 am من طرف حسين
» الى من يهمه الامر
الخميس نوفمبر 18, 2010 2:26 am من طرف احمد علي حسين العلي
» جبل يضع البيض في الصين
الأربعاء نوفمبر 10, 2010 9:31 am من طرف زائر
» لى من يهمه الامر
الأربعاء نوفمبر 03, 2010 9:30 am من طرف سمير محمود الطائي
» زرقاء اليما مه
الأربعاء سبتمبر 29, 2010 5:17 am من طرف سمير محمود الطائي
» الأخت المؤ منه ومشا كل العصر
الثلاثاء سبتمبر 28, 2010 1:59 am من طرف سمير محمود الطائي
» أعجوبة صورة الضحى
الثلاثاء سبتمبر 28, 2010 1:48 am من طرف سمير محمود الطائي
» با لحسين معا دلتي موزونه
الإثنين سبتمبر 27, 2010 6:30 pm من طرف سمير محمود الطائي